fbpx
بين الموضوعية والموقف الأخلاقي

يحتاج النخبوي أو المشتغل بالشأن العام إلى الجمع بين التحليل وإعلان الموقف. في الأولى ينبغي أن يكون تحليل المشهد موضوعياً، وفي الثانية ينبغي أن يستند الموقف إلى أساس أخلاقي* واضح وصريح.

الموضوعيّة لا تعني في هذه الحالة إعلان الحياد، أو اتخاذ مسافة واحدة من جميع الأطراف، وكما يجري توصيفها في الغالب، وهذا النوع من الموضوعية لا يصلح البتة في ظل ظروف سياسية واجتماعية سيئة ومنحطة، لكن الموضوعية المقصودة هنا هي تحليل الواقع وعناصر القوة والضعف فيه بشكل دقيق ليس فيه مبالغة أو تهويل أو استخفاف ونزق ثوري أو محافظ، وهذا من شانه توفير خارطة دقيقة لتلك القوى التي تحاول الاشتغال في هذا الواقع بغية تحسينه وتطويره لمعرفة كل تفاصيل وشروط ومرتكزات وهوامش واحتياجات ومتطلبات هذا الواقع.


بينما إعلان الموقف في ظل واقعٍ مزري ضروري أيضاً، إذ يؤشر على التزام النخبوي الإيجابي تجاه قضايا مجتمعه، وأتساقه مع حالته التي تفرض عليه أن يقبض بقوة على جمر القيم والأخلاقيات والمبادئ التي هي بمثابة لبنة أساسية تُساعد على وجود مجتمع صحي يوفر بيئة مثالية للتعايش والتضامن المدني والتجدد، وفي نفس الوقت يمثل الموقف الأخلاقي نافذةً كبيرةً للأمل، وحافزاً مهماً يُساهم على تشجيع المجتمع والجماعات الفاعلة، بشكلٍ خاصٍ، على الانخراط في عملية التغيير نحو الأفضل، والدفاع عن القضايا العادلة، والفئات المطحونة…إلخ.

 


يُسمي الفيلسوف اليساري بيير بورديو، وهو مثقف مناضل، ذلك المزيج بين التحليل وإعلان موقف أخلاقي بالـ”معرفة الملتزمة” كتطوير لمفهوم جرامشي عن “المثقف العضوي”، ويذهب إلى القول بأنه لا يمكن فهم أي ظاهرة دون تحليل دقيق لبنية هذه الظاهرة والآليات التي تحكمها، وتعمل وفقاً لها، وفي حالة “المعرفة الملتزمة” سيغدو التحليل العلمي الموضوعي والممارسة النضالية وجهين للعمل نفسه، حسب اعتقاد بورديو.


في هذه الحالة يُمكن فهم المسألة على النحو التالي: الافتقاد إلى الأولى يؤدي، بطبيعة الحال، إلى مراهقة وخفة بالغة في التعامل مع الواقع واشكالياته وتعقيداته، وكان من نتائجه فشل ذريع لحركات كثيرة ظهرت في أزمان وأماكن مختلفة أمنت بأهداف وغايات مثالية جداً ولكنها لم تُجِد قراءة الواقع بشكلٍ صحيح فكانت النتائج بائسة جداً، وفي بعض المرات مأساوية جداً، وانتصار ساحق للجماعات المهيمنة. 

 


والافتقاد إلى الموقف الأخلاقي الواضح يجعل من النخبوي أشبه بالحمار الذي يَحمِل أسفارا، وكما جاء في التشبيه القرآني، يأتي ويذهب دون أن يُحدِث أي أثر يُذكر!

*********
*المقصود بالأخلاقي هنا ليس ذلك المرتبط أو المحكوم بمنظومة القيم التقليدية ولكن تلك المبادئ والاخلاقيات التي أنجزها وطورها البشر في مسيرتهم الطويلة نحو الحضارة والتمدن.