fbpx
بعد ٣٧ عاما من الافتراق

د . قاسم المحبشي

عصر اليوم ذهبت الى مدينة الشيخ عثمان بغرض التسوق وإصلاح مروحة الشحن والشوّلة ركنت السيارة في مكان قريب من مقر الشرطة القديم وأخذت المروحة والشوٌلة أبحث عن مهندس يمكنه إصلاحهن سألت أحد الباعة في مدخل الشارع الشعبي عن مكان إصلاح المراوح والشؤل فأجابني ببساطة أهل الشيخ وطيبتهم المدنية : قائلاً: بالنسبة للمروحة يمكنك إصلاحها في ورشة أبو عامر القريب من هنا وأشار لي بموقع الورشة أما الشؤلة فلا أعلم اين يمكن إصلاحها) وفي الاثناء كان رجلا ستينياً نحيلاً واقفاً بجانبه ويبدو أنه يعرفه، تدخل الرجل وقال : تعال معي أوصلك الى ورشة المهندس كمال. طلبت من البائع أن اترك المروحة لديه حتى أعود من ورشة المهندس كمال، قطعت شارع مسجد الاحمدي بصحبة دليلي الستيني حتى أوصلني الى ورشة المهندس كمال، وكانت الكهرباء طافية طبعاً. طرق صاحبي الباب أكثر من ثلاث مرات، خرج المهندس كمال وتصفحنا وسألني :ما عطالها؟ قلت له: يطلع منها دخان وسواد. فأخذ الشؤلة وقال: تعال بعد ساعة وستجدها جاهزة. وحينما عدت اليه كانت المفاجأة السارة! أتدرون ماذا حدث ؟! وجدته منهمكاً في إصلاح الشؤلة على ضوء الترشليت المربوط في رأسه لإن الكهرباء لاتزال طافية في الحارة. أول ما لمحني في الظلام . قال لي: هل عرفتني؟ قلت له: للأسف لم أعرفك! ابتسم وقال :أنا عرفتك، الم تكن عام ١٩٨٠ في سلاح المهندسين الدافعة الحادية عشر خدمة وطنية ؟ قلت: نعم كنت هناك. قال: كنا زملاء. فصرخت فرحاً الآن تذكرتك، كانت فرحتى لا توصف بهذه المصادفة الجميلة التي قلما تتكرر في متاهة الحياة الصاخبة.إن تجد زميلاً لك بعد انقطاع دام ٣٧ عاماً فهذا حدث سار جداً فضلاً أنه لازال يعرفك! قال: أنا كمال علي فارع، كنت في سرية التجهيزات وكان قائد السرية الملازم خضر، وأنت كنت في سرية نزع الألغام مع القائد حسن
أيام فيصل مرشد، كانت أيام جميلة وكان النظام وقيم الانضباط العام للدولة هي السائدة وكانت الحياة بسيطة والأحلام كبيرة والعلاقات بين الناس طيبة تسودها الالفة والعفوية والسماحة. تذكرنا المدرب العسكري المساعد نصيب البركاني الذي كان صوته الجهوري يهز المعسكر كله، وكان يعاملنا بكل لطف وإنسانية في اثناء التدريب، تذكرت إنني كنت المسؤول الفخري على سرية نزع الألغام وكانت تتكون من واحد وخمسين فرداً من زملاء الدفعة وكيف كنا نصحى في الرابعة فجراً ونباشر رياضة الجري والتمارين السويدية لمدة نصف ساعة ثم نعود الى البرقات للاستحمام ولبس الزِّي العسكري للتدريب اليومي وكيف كان عليّ مراقبة مستوى الانضباط في السرية في السكن وخارجه وتسجيل الحضور والغياب صباح ومساء كل يوم، ورغم مشقة المهمة وما تحتاجه من جهد مضني كنا في غاية السعادة وربما كان هذا بفضل سن الشباب سلطان العمر! وربما كان للخدمة الوطنية العسكرية أثر إيجابي في تنمية وتأهيل الشباب لمواجهة الحياة بمسؤولية وطنية وجاهزية فعالة أفضل بما لا يقاس مما هو حادث اليوم من ضياع للاجيال الشابة في دروب وعرة! وهكذا أخذتنا الذكريات وتحدثنا عن أشياء وتفاصيل حميمة كثيرة عن الزملاء وعن تفاصيل الحياة الحميمة وكيف مضت حياة كل منا في هذا البلد التي مزقتها الحروب والانكسارات، حدثني المهندس كمال إنه بعد الخدمة الوطنية التحق في معهد هندسي وعمل في شركة النقل البري ولازال على ملاكها ولديه بنتين إحداهن درست في كلية الآداب قسم علم النفس وسوف تتخرج هذا العام والأخرى في كلية المجتمع وحدثته عن تفاصيل حياتي الشخصية والعملية وأخبرته أنني أعمل في كلية الآداب وانّا سعيد بهذا الصدفة التي جعلتني التقيه بعد هذا الغياب الطويل، أدهشني بالمهندس كمال ما يمتلكه من قوة ذاكرة رائعة، إذ ذكرني بتفاصيل لم أعد اتذكرها وليس بمقدوري تذكرها أبداً. فتسألت مع نفسي ما سر قوة الذاكرة عنده بعكس ما أشعر به أنا، هل للمهنة أثر في ذلك ؟!
على كل حال أحسست بسعادة غامرة بعد هذا اللقاء
الذي لم يكن يخطر لي على بال وبالصدفة البحتة مع زميلي العزيز المهندس كمال فارع في الخدمة الوطنية العسكرية الدفعة (١١) وما كان لهذا اللقاء الجميل من تداعيات مؤثرة في النفس والذاكرة، إذ تذكرت المرحوم عبدالعزيز أحمد السيد الذي مات في اثناء الخدمة العسكرية الف رحمة ونور تَغْشَاه وزملاء اعزاء كٌثر لا أعرف مصيرهم. واتذكر أن الزميل العزيز الدكتور أحمد قاسم العوذلي والزميل العزيز الدكتور عمر علي ابو ليث والزميل العزيز شيخ ثابت المحبشي والزميل العزيز المهندس محمد علي العنتري من زملاء التجنيد الذين بقينا على تواصل مستمر منذ سلاح المهندسين وها هو الزميل العزيز كمال فارع يحضر اخيرا ليمنح التواصل الحي زخماً جديدا مما يؤكد فعلا أن مصير الحي يتلاقى! ورحم الله الزملاء الذين توفاهم الله ويستحيل لقاءهم في هذه الدنيا الفانية، والحنين وجع الذاكرة.
#طلبت من المهندس كمال تزويدي بصورة تذكارية ووعدني بان يرسلها لي بالواتساب في وقت لاحق.
إذ حال الظلام اليوم دون تمكني من أخذ صوره معه!

مما اضطرني للبحث في أرشيفي الفوتوغرافي فوجدت هذه الصورة مع الأخ شيخ ثابت ابو رائد أخذناها اثناء الخدمة بسلاح

المهندسين.