fbpx
حَنَشْ يافـع!!

علي صالح الخلاقي

هل سمعتم بقصة “حنش يافع” الذي كاد أن يكون مطوياً على كل حدود يافع؟!!.إنها قصة حقيقية تستحق أن نحفظها عن ظَهْر قَلْب، وأن تدوَّن بماء الذَّهب، وتُخلَّد في صفحات الكُتُب، من قبل الشعراء وأرباب الأدب، لتتناقلها الأجيال بكل زهوٍ وعَجَب، تستلهم منها قيم الشجاعة والإباء، في مواجهة الأعداء، والتسامح واللِّين والوفاء، في التعامل مع الأهل والأقرباء.في البدء نوضح أن الحَنَشُ لغةً: الحَيَّةُ. وقيل: الأَفْعَى، وبِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ حَنَشاً. وفي يافع يُسمى كثيرون باسم “حنش” كما في غيرها من المناطق. شخصيا أتذكر من زملاء الدراسة في المرحلة الإعدادية ” بالليل حنش ” رحمه الله، ومن زملاء العمل في الإعلام العسكري “حنش مُجَمّل” رحمه الله، وهناك عدد من طلابي في كلية التربية يافع ممن حملوا اسم “حنش”.

لكن حديثنا هنا سيكون عن حنشٍ استشنائي وغير عادي، إنه البطل الصنديد: حنش بن عبدربه بن عوض بن عبدالحبيب بن الحاصل الحِمْيَري اليهري اليافعي..أو باختصار “حنش الحاصل”، أو “حنش يافع”، كما اقترن اسمه واشتهر في معارك المواجهات مع قوات الإمام الزيدي يحيى بن حميد الدين التي حاولت غزو يافع في عشرينات القرن الماضي، بعد أن وصلت جحافلها إلى بعض المناطق المجاورة لها وعلى أطرافها مثل (ردفان والشعيب وحالمين) وهي الجبهات التي كان حنش يظهر فيها فجاة متى ما حمي وطيس المعارك واشتدَّ أوارُها وأَسْنَمَ لهيُبها هناك، حتى تم دحر الغزاة بمقاومة بطولية أبدتها القبائل مجتمعة وموحدّة في جميع تلك المناطق ضد ذلك الخطر الزَّيدي الداهم، فضلا عن مشاركته قبل ذلك في الحرب مع القائد التركي(سعيد باشا) في لحج ضد الانجليز ، وكذلك في أحداث (دار حلمة).ولد البطل (حنش الحاصل) على وجه التقريب عام 1277هجرية/ 1860م في  قرية اسمها (لَكَمَة الوطح) من حِمْيَر الجَبَل – مكتب يهر، وهي قرية منيعة تربض فوق شنخوبٍ منيف، تُشرِفُ من خلاله على وادي يهر ووادي حمومة، في سرو حِمْيَر-يافع، وتعَلَّم مثله مثل أنداده الرماية والتسديد إلى الأهداف (النَّصَع) منذ طفولته، وبمرور الأيام أتقن فن الرماية على الأهداف وبرع في ذلك، حتى فاق أقرانه، وأصبح قناصاً ماهراً لا يخطئ هدفه، أي من (رُماة الدَّهش) كما يقال في وصف أفضل الرماة ممن يسددون فوهات بنادقهم على الأهداف بسرعة حتى من الحركة (صَدْريه) فيصيبونها بدقة. وهو ممن عناهم الشاعر الشيخ راجح هيثم بن سبعة في قوله:

يافع هُمْ الهُرَّش ورُميان الدَّهش لا صَحْت لَيْهَا با تجَمِّع شورها
حنشان تترهمش وحيَّات القمش يا ويل من لمَّت عليه أنيابها

ومنذ طفولته تشرب حنش روح الشجاعة والإقدام، وهذا ما هيأه ليكون ضمن قادة جيوش يافع المشهورين أثناء تلك المواجهات ضد قوات الإمام يحيى في أكثر من جبهة. إذ كان فارساً مِقدَاماً لا يشق له غبار، يتقدم الصفوف، غير مبالٍ بالحتوف،  ويتنقل حسبما تقتضي الظروف، حتى أرعب الأعداء، بكثرة صولاته وجولاته، مشاركاً في أكثر الجبهات سخونة بين الشعيب وردفان. وقيل أنه كان يمكث أكثر من سنة متنقلا بين جبهة وأخرى دون أن يؤب إلى بيته ولو لمجرد زيارة عابرة، وتعرض جسمه لإصابات عديدة، حتى يروى أن جسمه لم يخلُ موضع منه من أثر الرصاص. وهكذا غدت سيرته في البطولة والإقدام تتردَّد على ألسنة الأنام، وبلغ صيته إلى مسامع جنود الإمام، فظنوا أنه من الهَوَام، يساعد المحاربين على الإِقْدَام، ويتقدم فيالق الاقتحام!..بل أن أحد قادة الزيود لكثرة ما سمع اسم (حنش) يتردد في الجبهات أصابه الرُّهاب من هذا الاسم، وتساءل مع بعض جنوده:”ترى كم حنش معهم في يافع؟”، ظناً منه أنه هناك أكثر من (حنش) يقودون الجبهات..وحينما عرف أنه شخصٌ واحد يتنقل بسرعة البرق في كل الجبهات، ويكون حاضرا حيث تشتد حُمّى المواجهات، قال مقولته الشهيرة في وصفه مستغرباً:”ما هذا الحنش الذي يكاد يكون مطوياً على كل حدود يافع؟!!”. ويروى أن ذلك القائد الزيدي في إحدى المواجهات في ردفان سأل المقاتلين اليافعيين في خط المواجهة بقوله:” هل حنش معكم؟!”. فأجابوه بنعم. وطلب وقف إطلاق النار مبدياً رغبته أن يرى (حنش) بأم عينيه وأضمر في نفسه التخلص منه. فظهر له حنش بقامته الفارعة قائلاً بصوتٍ عال:” أنا حنش..هل أشبعت عينك؟؟”.. وحينما رأى الغدر في عَيْنَي ذلك القائد الزيدي سارع حنش بتوجيه بندقيته إليه وأحكم تسديد الضربه من الحركة وهو يقول(خُذ) فأرداه قتيلاً قبل أن يغدر به، ولولا براعته لما تمكن من قنصه بتلك البندقية القديمة التي يصعب التَّحكُّم بدقتها في التصويب من الحركة إلاَّ قناصٌ بمثل مهارته. ويصدق فيه قول الشاعر علي صالح بن طالب السعدي، رحمه الله، في وصاياه الشعرية الشهيرة المتسلسلة:
والسابعه لو الخصوم اِتْقَابَلَهْ
حُطِّ الهِرَاء خَلِّ البنادق يَهْتَرَين

والثامنه أحسن سَلَبْ بالبَنْدَقَه
يَرمُون والاّ ما البنادق ما رَمَيْن

 

وهناك الكثير من القصص التي يتناقلها الناس عن بطولات حنش الأسطورية، مع ما يضيفه إليها خيالهم الخصب عنه من حكايات تمتزج فيها الحقيقة بالخيال، كما يلهج بذكره الشعراء ممن خلدوا مآثره، حتى أصبح أَيْقُونة مَجْدٍ في ذاكرة الأجيال، وكأنه يعود إلى العصور الخوالي، رغم أنه بطلٌ من أبطال عصرنا الحالي، لا تفصلنا عنه سوى أقل من ثمانية عقود مضت على رحيله، حيث كانت وفاته على وجه التقريب سنة 1362هـ/ 1942م، فيما توفي نجله علي حنش عبدربه الحاصل عام 2005م، والسبب انعدام التدوين لسير الأبطال وأحداث التاريخ، بسبب الجهل الذي ساد لقرون، عرفت يافع خلالها السلاح والقتال، أكثر من أي شيء آخر، وسال من دماء أبنائها في حروبهم ضد الغزاة الزيود أو في حروبهم القبلية بين بعضهم البعض أكثر من الحبر الذي سال من مَحَابرهم..  فهذا هو الشاعر المُفْلِق زيد حسين ثابت السليماني، يفخر بـالماجد الأصيل، سليل المجد الأَثيل “حنش الحاصل”، وقد التبس عليه زمن البطل وتراءى له أكثر قِدَماً، فوضعه في مرتبة قائد ميسرة الأميرة (نور العفيفية) التي استثارت همم المحاربين لمقاومة الجيوش الإمامية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، أي قبل زمن حنش بحوالي قرن ونصف. وما يشفع لشاعرنا أن ما سطَّره في نظمه مُجَرَّد حُلْمٍ، كما أوضح في مطلع البيت الأول، لكن حُلْمَهُ لا يخلو من مصداقية في وصف بطولة وإقدام “حنش” وسرعة تنقله بين الجبال العالية، شاكِياً سلاحه الذي لا يفارقه في حله أو ترحاله، وكذا دقة تسديده على الأعداء وإصابتهم بمقتل في أصداغهم، إذ يقول عنه:
قال ابو نادر حلمت انِّي بنُور اليافعيه

واقفه تخطب بيافع كُلها في “مسجد النور”
شُفت بايمنها قيادات الفيالق ملتويه
وبأيسرها (بَنْ الحاصل حنش)كالسِّبع مَزْرُور
جا (بن الحاصل) وقال اتسَمَّعوا قولي شُوَيِّهْ
يَهْل يافع واحذروا تتسمَّعون الكذب والزور

خَذْ سلاحه واتَّجَهْ نحو الجبال المُعتليه
كلما ابصر رأس قُدَّامه رجع من دون صَنْبُور

 

والصَّنْبُور أو الصّابر, باللهجة اليافعية، هو الصدغ، جانب الوجه من العين إلى الأذن، وتكون الضربةُ فيه مميتة وقاتلة، ومن ذلك قولهم “لا قَهِيْ بالصَّابر لَعَا تخابر”.ورغم ما عُرف به (حنش) من شجاعة وبطولة وشدة بأس ضد الأعداء، فقد كان على العكس من ذلك مع الأهل والأقرباء، متواضعاً، لطيفاً، ليّن الجانب، لا يتعالى عليهم ولا يلجأ إلى الشدة والقوة في حل مشاكله معهم إذا ما وجدت، بل يخفض لهم جناحه ويتعامل معهم بكل طيبة وسماحة. ومن القصص التي تروى عن سماحة نفسه أنها حدثت ذات مرة مشاجرة بينه وبين أحد أبناء عمومته بسب خلاف بسيط على (مِدَارة) وهي حضيرة أو زريبة للماشية، وكان ابن عمه عصبياً، نحيل الجسم، سريع الغضب لأي سبب، وسرعان ما عقد ناصيته واندفع في لحظات غضبه ولطم حنش في خده، فلم يرد عليه حنش باللطمة، لمعرفته أنه عصبيُّ المزاج، قليل الاحتمال، يحمُق لأَتْفَه الأمور، بل كَتَمَ غيظه، رغم قوته وشدة بأسه، متأسِّياً بقول الرسول الكريم:” إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ”.

 

لكن هدوء حنش أثار حفيظة أحد الوسطاء الذي غضب لِحَنش، ولم يتقبل تطاول ابن عمه عليه وإقدامه على لطمه بحضوره بينهما لحل الخلاف، واعتبر ذلك إهانة له ولزملائه الوسطاء، فسارع إلى امتشاق خنجره (جنبيته) وأراد أن يطعن بها ابن عم حنش، لكن حنش أوقفه بكل هدوء عند حَدِّه، وكأنه لم يَتَلَقَّ للتَوِّ لطمةً في خَدَّه، فقال ذلك الشخص موجها كلامه لحنش باستغراب والغضب بادياً على وجهه:”كيف تسمح له أن يلطُمك وأنت حنش؟!!” أي وأنت البطل الذي يهاب الخصوم سماع اسمه ويخشون بأسه!!..فأجاب حنش بكل تواضع وصدق وهو يهدئ من انفعال الرجل الغاضب:” أنا حنش من جبل العُر وكذاك [أي مع الزيود]..أما عند عيال عمّي وأهلي فمهما حصل منهم فأنا (سُحلحلة)!!”..والسُحلحلة: نوع من السحالي جلدها أملس يشبه جلد الحنش, لكنها لا تلدغ ولا تؤذي..فما كان من ابن عمه المنفعل، حينما هدأت سَوْرَةُ غضبه وسكن رَوْعُه إلا أن اعتذر وبادر بطلب الصَّفح والسَّماح وتأسف وندم على ما بَدَرَ منه من فعل، فكان أول غضبه جنون وآخره ندم، ولسان حاله يردد قول الشاعر:ما لي غضِبتُ فضاع أمري من يدي والأمر يخرج من يد الغضبانِرحم الله البطل المغوار (حنش الحاصل). وكم نحن بحاجة لأمثالة في زمننا، وفي كل زمان، وعلينا أن نتعلم من سيرته العطرة وقِيَمِه النبيلة، وأن نأخذ ببأسه وشدته ضد الأعداء وسماحته وتواضعه مع الأهل والأقرباء..