fbpx
الى روح أبي الذي رحّل

الى روح أبي الذي رحّل

يموت المرء حينما يكف الناس عن تذكّره !

عشرون عاما مرت على رحيلك الى دار الخلود الف رحمة ونور تغشاك في مثواك والدي الحبيب وما أضيق الحياة وما أوسع الموت! ولكننا لم ننساك أبدا فأنت بيننا في كل لحظة من لحظات حياتنا. أمي الحانية لم تفتر لحظة واحدة عن الحدث عنك وتفاصيل حياتكما السارة والحزينة منذ طفولتكما، حدثتنا عن وفاة أمك وأنت مازلت طفلاً صغيراً وعن حياة يتمك القاسية وعن كفاحك المرير في سبل العيش الكريم، وعن بدايات تجربتك في ممارسة التجارة في بيئة قاسية وكيف أستطعت أن تشق طريقك بمفردك في عالم التجارة في زمن الاستعمار الانجليزي حدثتنا عن القوافل التجارية التي كنت تعود بها من عدن بعد غياب أشهر سيرًا على الأقدام ، حدثتنا عن أيام الخوف والقلق الثوري في مطلع سبعينات القرن الماضي وكيف كنت تنام في الجبل خوفا من الغدر والاعتقال بسبب تهمة البرجوازية والكوبرادورية.

 

وكيف أضطريت للهرب إلى ردفان ركب بن حديد للفتح دكانا هناك، حدثتنا عن شجاعتك الأسطورية في أزمنة الخوف الايديولوجي الاشتراكي وكيف أستطعت مواجهة العاصفة دون أن تنثني أبدا، حدثتنا عن غضبك العنيف وحنانك اللطيف في أيام الشدة واللين عن عشقك للأرض والمطر عن صراحتك وصرامتك وحزمك وعن حكمتك وحلمك وعن أشياء وأشياء كثيرة أخرى لا أحد يعرفها في شخصيتك الغامضة حد العمق البسيط حد الوضوح، وحينما أستمع الى أمي وهي تتحدث عنك وأتذكر أيام طفولتي معك اكتشف تلك الجوانب الإنسانية في شخصك العظيم، مازلت أتذكر كيف كنت تبكي بحرقة مثل طفل خوفاً علينا من الذئاب البشرية لما كنا عليه من سذاجة وبراءة بعد وفاة ساعدك وقرة عينك محضار أخي رحمة الله عليه وهو في ريعان الشباب، هذا الموت المفأجى هو الذي غيّر كل شيء في حياتك وحياة العائلة، مات محضار قبل عرسه بأيام في الثامنة عشر من عمره بعد أن كنت ترى فيه المستقبل كله، حينما مات كنت واخوتي مازلنا اطفالاً فجن جنونك عليه وزاد خوفك عليّ وعلى صالح أخي وما أن رأيتني صبياً حتى أصررت على زوجي، أتذكر حينما أصطحبتني معك الى معرض السيارات في المعلا دكة لشراء السيارة النسيان الخضراء في عام ١٩٧٢م مازلت صورتها في قرتاسها الشفاف تسطع بالذاكرة ،قلت لي يومها هذه سيارتك وحينما يكبر صالح أشتري له سيارة حمراء مثلها! أتذكر موقفك من حادثة سكبي لدبة العسل العلب إلى دوح الماء في أحد ليالي رمضان قبل الافطار حينما كنت في الثامنة من عمري وكيف تعاملت معي ومع أمي التي كانت ترتعد من الخوف خشية غضبك الهائج ! ورغم محاولة أمي إخفاء الأمر عليك بتصفيت وتجفيف الماء المخلوط بالعسل من قاع الدوح بسرعة البرق الا أنك اكتشفته بالصدفة حينما طعَّمت القهوة حالية بالعسل الأصلي، فقلت لها ماذا عملتي للقهوة اليوم ؟! فاعترفت لك بالواقعة بعد أن اخفتني عن الأنظار ! فكان ردّك عليها مبتسما اين الولد قاسم فدية على رأسه ! احتضنتني بحنان ليلتها ومن حينها أسميتني (قاسم الدوح ) وكان هذا أحب لقب الى نفسي! أتذكر الهدايا التي كنت تهديها لنا أنا واخواني بعد عودتك من عدن ومنها مربى الزنجبيل الذي لم أتذوق ألذ منه أبدا! أتذكر حينما كنت تختبرني في ما عرفته من دراستي الابتدائية بإعطائي رسالة لاقرأها لك أو تجعلني أحسب بعض المسائل الحسابية البسيطة في الجمع والطرح والقسمة والضرب، أو جعلي اقرأ بعض السور القصيرة من جزء عّم وها أنا اليوم أدركت أن هذا هو أفضل اختبار لقياس وتقييم المستوى التعليمي عند التلاميذ ، كم كنت حكيما أبي. أتذكر رحلاتي معك الى عدن وردفان فوق الجمال مع المرحوم صديقك الوفي محمد قاسم مثنى الف رحمة ونور تَغْشَاه في مثواه ، أتذكر الحكايات التي كنت ترويها لنا عن معانأت السفر والتقطع في زمن الصراع بين الجبهتين القومية والتحرير،وكيف قاومت المتقطعين من أهل عبدالله في ردفان بكل بسالة واقتدار لوحدك وبعض أصدقاءك من ردفان لمدة ثلاث أيام بعد أن أنزلت البضائع من فوق الجمال بسرعة حتى لا تصاب بأذى! أتذكر حينما أصطحبتنا أنا وصالح أخي الذي يصغرني بثلاث سنوات معك الى الشيخ عثمان السيلة وتلك الحادثة التي كادت تودي بحياته وكيف كان فزعك عليه الذي لم أنساه أبدا، ولكن الله قدر ولطف.

 
ماذا بوسعي أن أتذكره وأقوله عنك يأبتي الحبيب بعد عشرين عام من الرحيل في ملكوت الرحمن الرحيم

 
كل ما أتذكره عنك هو تلك السيرة العطرة بالكفاح والكرامة والشجاعة والصدق والشهامة والأمانة والأستقامة وتلك النصائح التي كنت تنصحنا بها أنا وإخوتي ومنها :لا تخافوا الا من ارحم الرحمين، ولا تفرح بمدح الناس لك، وخير لك أن يحسدك الناس على نجاحك من أن يشفقون عليك لخيبتك! لا تغش أحد ولا تغش نفسك، كنت تقول لي لا تكره أحد ولا تحسد أحد على ما لديه، لان الحسد كالنار يحرق صاحبه!كنت تقول لنا لا تمدحون أحد من الناس فالمدح نفاق ولا تذمون أحد أو تشمتون بأحد لان الذم والشتم والشماتة ليس من الأخلاق الكريمة! لم أسمعك يوما تشتم أو تشمت أو تحرض ضد أحد من خصومك ، الف رحمة عليك أبي أمي تحبك ونحن نحبك ونتذكر كل يوم نعم أفتقدناك ولن ننساءك أبدا فالف رحمة ونور تغشاك في مثواك !

 
قاسم المحبشي