fbpx
الديمقراطية بين النعرة والشطط (الحلقة الخامسة والاخيرة)
عبده النقيب
تعرضت في الحلقات الاربع السابقة الى مسائل نظرية مع ملامسة او محاولات اسقاط تلك المفاهيم النظرية على واقعنا الجنوبي مع تأكيدي على ان تناول مسألة معقدة بهذا الشكل في ورقة صغيرة لا يفي بالغرض لأسباب كثيرة منها, تشعب الموضوع وتعقيداته ناهيك عن الجدل النظري التاريخي الطويل حول هذه المسألة. ان الديمقراطية كمفهوم يختلف ويتنوع من مفكر الى آخر ومن تجربة الى اخرى ومن بلد الى آخر فلا يوجد تعريف محدد لها. لا مجال هنا للتوسع والاسهاب في اشكال الديمقراطية وتجارب البلدان المختلفة بقدر ما يهمني بدرجة أولى هو محاولة البحث في المهام الملحة للثورة الجنوبية في هذه المرحلة الانتقالية التي تتأرجح بين الفوضى والفراغ  من جهة وبين والاستقرار والدولة الوطنية الديمقراطية الجنوبية نسعى لبنائها الآن من جهة أخرى.
ان الظروف المعقدة التي تعيشها بلدنا نتيجة تداخل العوامل المؤثرة مثل بقايا نظام الاحتلال اليمني المنهار الذي وجد في الفراغ القائم وغياب الدولة مجال أكبر للحركة والتخريب على نطاق واسع وهو ما يتيح لهم ممارسة اعمال النهب والسرقة لثروات البلد ومواردها عبر وسائل مختلفة بما في ذلك استخدام فرق الارهاب والمليشيات المسلحة. كما يؤثر الصراع الإقليمي والدولي بشكل كبير على عملية بناء الدولة في الجنوب وفي القرار السياسي لقيادة الثورة أيضا وهو الأهم وجود قوات التحالف بما في ذلك الدول التي لها توجهات مناوئة للتحالف العربي ولتطلعات شعب الجنوب مثل قطر وتركيا وإيران ناهيك عن التأثير الغير مباشر لروسيا والولايات المتحدة والدول الاوربية الأخرى كفرنسا وبريطانيا والمانيا وغيرها.
هده العوامل مجتمعة بالإضافة حالة التمزق التي اصابت مكونات الحراك الجنوبي التي تعتبر الملهم السياسي للثورة بشكل او بأخر ناهيك عن وجود الدور الباهت للنخبة السياسية الجنوبية وصعود دور المقاومة العسكرية كنتيجة طبيعة للحرب وتفكك نظام الاحتلال اليمني.
هذه العوامل وغيرها لابد ان لها تأثير مباشر علينا ان نأخذها في الحسبان عن حديثنا عن بناء الدولة الجنوبية بآليات ديمقراطية مدنية.
يمكن اختصار الديمقراطية في المقولة التي عرّفها بها إبراهام لنكولن “ “هي حكم الشعب، من قبل الشعب، و من أجل الشعب”. .. يعني وجود مؤسسة حكم شرعي تحظى برضاء الشعب ويستطيع الشعب مراقبتها وتغييرها.
ما الغرض من وجود الديمقراطية التي تناضل من اجل ترسيخها الثورات والشعوب؟  الهدف يكمن بدرجة أساسية هو في إيجاد العدالة وضمان الحقوق المتساوية لأفراد الشعب” الحكم الرشيد”. ماهي الآلية التي تتحقق بها هذه الأهداف؟ هذه مسألة خلافية والرؤى فيها متباينة.
 في تقديري ان الممارسة الديمقراطية التي لا تحقق العدالة هي ديمقراطية شكلية ومفروغة من محتواها  فالانتخابات التي جرت في مصر في 2011 جاءت بالتنظيم الدولي  لجماعة الإخوان السملين الى السلطة. وكردة فعل ضد الديكتاتورية التي عشعشت في عصر الرئيس مبارك صوت للدكتور مرسي قطاع ليبرالي واسع مثل التيار الناصري خوفا من عودة الديكتاتورية لكن ما ان وصل مرسي الى السلطة حتى تنكر لمطالب ناخبيه وتحول الى رئيس لجماعة الإخوان المسلمين وليس للشعب المصري ورفض الاستجابة لنداء الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والملايين التي خرجت ضده تناشده بالاستقالة او بالانتخابات المبكرة  واصر على التمسك بشرعيته الشكلية التي سقطت بالفعل, ولولا تدخل الجيش لانزلقت البلاد الى مستنقع الحرب الاهلية. عانت مصر في عهده الرئيس “الاخوانجي” من ويلات القمع للحريات المدنية و”اخونة” الدولة وتدهور كامل في الخدمات والتضييق على وسائل الإعلام وفساد مستشري للمتنفذين من الجماعة ومازالت مصر تعاني منها حتى اليوم جراء لجوء جماعة الاخوان الى العنف في صراعهم على السلطة وهو سلوك يتنافى مع ابسط القيم الديمقراطية والمدنية  تأكيدا على ان الديمقراطية كانت مجرد حصان طروادة بالنسبة لهذه الجماعة. 
تجربة الامارات العربية المتحدة في بناء الدولة تستحق الدراسة رغم ان طبيعة الحكم فيها عائلي وهوما يتنافى مع النموذج الديمقراطي لكن نظام الحكم الرشيد فيها استطاع ان يحقق للمواطن من الحقوق ما عجزت عنه اعرق الديمقراطيات في العالم جعلت من الشعب الاماراتي يرضى عن وجود مؤسسة السلطة وهو ما يعني جوهريا تجسيد حي للديمقراطية. لم يوفر الحكم الرشيد في الامارات العربية الرفاه لجميع المواطنين فحسب بل انه بنى دولة النظام والقانون بشكل مذهل.
ما قيمة الحديث عن الديمقراطية وضجيج الاعلام والسلطة في الوقت الذي لا يحصل المواطن على ابسط حقوق المواطنة. اذا الديمقراطية عملية طويلة ترتبط بالتنمية وتطورها فالحديث عن الديمقراطية السياسية التي لا تملك قاعدة اقتصادية هي مجرد ديماغوجية سياسية وهراء ليس الا.
بكل تأكيد اني لا ادعو لمحاكات النظام السياسي في الامارات والعودة للمشيخات او السلطنات في الجنوب العربي التي لم يعد لوجودها أي مقومات ولكني أرى بان نموذج الامارات هو الاقرب الى تحقيق الديمقراطية السياسية من غيره من الأنظمة السياسية التي تجري فيها الانتخابات الحرة لو قررت السير باتجاه الملكية الدستورية التي تخطو نحوها المملكة المغربية والكويت بشكل حثيث.
السؤال الذي يطرح نفسه علينا في الجنوب العربي هو حول شكل وطابع الديمقراطية التي نسعى اليها والتي تناسبنا. يبدو ان لدينا في الجنوب وعي ديمقراطي عالي مكن مؤسسات المجتمعات المدني من الانتشار وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وحرية الصحافة والارث المدني لعدن في نشر هذا الوعي لكن كل محاولات تأسيس ديمقراطية سياسية لم يكتب لها النجاح لأنها قائمة على خواء اقتصادي وتنمية متخلفة وسيادة للفوضى بدلا من الدولة مصحوب بغياب للوعي القانوني. لن يكتب للديمقراطية السياسية النجاح قريبا لهذه الأسباب الرئيسة بل ولن يكتب النجاح لقيام أحزاب سياسية جنوبية قوية تمارس الديمقراطية داخل مؤسساتها قبل ان تدعو لها في المجتمع والسلطة.
الديمقراطية مرهونة بمستوى معين من التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تنتج عنها الديمقراطية السياسية.
لماذا نجحت قوى الحراك السلمي الجنوبي في بث الروح الوطنية ونشر الوعي الوطني وفشلت في تشكيل مكون سياسي يوحّد او حتى ينسق بين مكوناتها. بكل تأكيد ان العربة هنا وضعت قبل الحصان ولن نستطيع بناء مؤسسات سياسية او ديمقراطية بشكل مجرد منفصلة عن الواقع.  فبمجرد ان ننظر لمكونات الحراك المختلفة فإنها جميعها غير مؤهلة لان تصبح حامل سياسي للثورة فبالإضافة الى تعددها وتشابه برامجها فإنها مهترئة بل والكثير منها فعليا غير موجوده وقد تمزقت وهذا ما يفسر عجزها الكلي الذي تكشفت في اللحظات الحاسمة خلال حرب المقاومة ضد الاحتلال اليمني. عجزت أيضا في اجراء أي حوار جدي أو إيجاد أي شكل تنسيقي في حدوده الدنيا ولا ادل على ذلك اكثر مما تعرض له المؤتمر الوطني الجامع الذي بذل في تأسيسه جهود كبيرة وامتنع عن الحوار في اطاره عدد غير قليل من المكونات التي اصمتنا اليوم بالدعوات للحوار.
تشكلت المقاومة الجنوبية وفرضت نفسها في السلطة عبر حرب دامية وتشكل المجلس الانتقالي بقوة السلاح وحقق المكونين نجاحات كبيرة مقارنة بفشل الحراك السلمي الجنوبي وهو ما يجعلنا نطرح أسئلة كبيرة حولة طبيعة المرحلة التي نعيشها والمهام الملحة المنتصبة امام الثورة.
الديمقراطية لن تتحقق في ظل غياب مؤسسات الدولة التي تحميها وفي ظل غياب الأحزاب السياسية ذات الطبيعة الديمقراطية وهذا يضع امام المجلس الانتقالي مهام كبيرة وصعبة في كيفية تحقيق المشاركة السياسية والقدرة على توظيف هذا الحشد الجماهيري العريض المؤيد للمجلس. خطورة هذا الحشد والتأييد الشعبي الكاسح تكمن انه في حالة فشل المجلس في توظيف هذا الحشد واختيار الآلية المناسبة لإشراك هذه القوة في معركته الشرسة والحاسمة مع بقايا نظام الاحتلال اليمني فإن هذه القوة ستتحول الى عامل معرقل وسترتد الطاقة الهائلة الى صفوفها في شكل خلافات وانقسامات خطيرة.
يقول فلاديمير اليتش لينين حول عفوية الجماهير واهميتها ” “العنصر العفوي” ليس في الجوهر غير الشكل الجنيني للوعي. فالمشاغبات البدائية كانت تفصح منذ ذلك الحين عن نوع من استيقاظ الوعي ” لينين كتاب – ما العمل. الفصل الثاني ص 18.
المجتمع في دولة الامارات العربية المتحدة ربما هو اقرب المجتمعات شبها لنا في مجتمع الجنوب العربي فالخلفية القبلية والمشيخات والامارات والتجانس الاجتماعي في ظل عدم وجود أي طوائف او اعراق او اديان مختلفة متعددة  في حالة نادرة فلا تشبه مجتمعنا الجنوبي أي من الدول المجاورة سواء اليمن او عمان أو البحرين أو الكويت أو السعودية ولا نذهب بعيدا الى العراق وسوريا ولبنان ومصر فالوضع هناك اكثر تعقيدا.. كل هذه الدول في تنوع اثني وطائفي وديني وهو ما يسهل علينا في الجنوب تجاوز الكثير من الصعوبات والمعوقات في معركة بناء الدولة الجنوبية القوية لخلوه منها.
تبدو فكرة الأقاليم التي خرجت بقرار سياسي دوافعها مشبوهة بعد ان فشل مؤتمر الحوار الوطني اليمني الذي انعقد دون أي مشاركة جنوبية فعلية في حل المهمة الرئيسة المنتصبة امامه في التوصل الى إيجاد تصور واقعي ومقبول حول شكل الدولة اليمنية. فكرة الأقاليم الستة المقترحة تبدو غير مسنودة بأي أسس منطقية عدى كونها مشروع تفكيك للدولة اليمنية وهي السبب الرئيس الذي قاد الى الحرب المستعرة الان. إن من يعتقد ان عبدربه عندما اصدر القرار الرئاسي بتقسيم اليمن الى ستة أقاليم كان مجرد قرار رئاسي محض فهو مخطئ فالذين وضعوا مشروع تقسيم العراق وليبيا هم انفسهم الذين صاغوا قرار الستة الأقاليم وهم انفسهم أصحاب استراتيجية الفوضى الخلاقة وهم أيضا انفسهم أصحاب مشروع إعادة تقسيم المنطقة جغرافيا على أسس اثنية وطائفية . لذا فإن اختيار شكل الديمقراطية التي تناسبنا مسألة مهمة والحديث عن الفيدرالية في ظل وجود دولة ضعيفة هو مشروع حرب أهلية وتفكيك للدولة حتى على مستوى الجنوب نفسه.
صحيح إن الحديث عن الديمقراطية في الجنوب لازال سابقا لأوانه لكن عملية بناء الدولة الجنوبية يجب ان يسير وفقا لمنهجية ديمقراطية حتى لا نبنى الديكتاتورية من جديد وهذه مسالة غاية في الأهمية حتى لا نتذرع بعدم وجود مقومات للديمقراطية ونلجأ لبناء ديكتاتورية سنحتاج لعقود طويلة حتى نثور عليها ونقوم بهدمها في حرب عبثية لنعود مجددا الى نقطة الصفر التي نحن فيها الان ولنا في تجارب العراق وسوريا وليبيا درس بليغ.
في ظل قصور الديمقراطية الليبرالية الغربية التي تتضمن حكم الأغلبية فإنها في هذه الحالة تصادر حقوق الأقلية وهي ايضا ديمقراطية للأغنياء والاقوياء فحرية الانتخابات هي كذبة كبرى لان من يحتكر السلطة الفعلية والتي تتحكم بالسياسات العامة هي مراكز صنع القرار التي تتبع التكتلات الاقتصادية التي تملك المال والاعلام أما الأغلبية الساحقة من المواطنين فهم مشغولين بتأمين لقمة العيش مقارنة أيضا بالديمقراطية الاشتراكية القائمة على ديكتاتورية البروليتاريا والتي تمنح السلطة للطبقات العريضة وتحرم الطبقة البرجوازية من حقوقها, ظهر الكثير من الفلاسفة الذين بحثوا عن البدائل الديمقراطية لتلافي هذا النواقص التي تعتري الديمقراطية الليبرالية فوجدوا نموذج الديمقراطية التوافقية.
يعد الفيلسوف الهولندي الأمريكي أرنت ليبهارت ابرز المنظرين المعاصرين لهذا النموذج من الديمقراطية والتي ترتكز على عملية تقاسم السلطة دون الاعتماد على الأغلبية العددية والتوافق بين الأغلبية والأقلية عبر منح الأقلية حقوق وضمانات منها حق الفتيو. يشرح ليبهارت في كتابة “الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد” عدد من الوسائل والاليات التي يمكن من خلالها تحقيق التوافق المجتمعي وخصوصا في المجتمعات التي تتعدد فيها الطوائف والاعراق والأديان. تمتلك الأفكار العامة للديمقراطية التوافقية أهمية كبيرة يمكننا أن نختار ما يناسب مجتمعنا الجنوبي منها وخاصة في هذه المرحلة. تقوم الديمقراطية التوافقية على فكرة المركز والأطراف.. أي توزيع السلطة بين المركز والأطراف عبر منح استقلالية نسبية للمؤسسات والأقاليم لإدارة نفسها, ومنح الأقاليم جزء من الثروة والوظائف السياسية في اطار المركز ناهيك عن حقها في إدارة شئون اقليمها إداريا وتنمويا وهو ما دأب على تسميته لدينا بالحكم المحلي واسع الصلاحيات.
لا يوجد لدينا في الجنوب تعدد مجتمعي كما عرّفه ليبهارت لكن يوحد في الحقيقة لدينا تعدد قبلي وتجاهل مثل هذه العامل امر قد سبب لنا متاعب كثيرة لا تختلف عن التعدد الطائفي او العرقي. يؤكد ليبهارت في نظرية “تقاسم السلطة” على مفهوم “التنمية السياسية” أي بناء الامة ينصح الزعماء في البلدان النامية في “السعي لبناء الامة عبر استئصال الولاءات الأولية الأدنى من الامة والاستعاضة عنها بالولاء للأمة.” أرنت ليبهارت – الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد ص41 . لأن أي اخلال بشروط التوافق بين المركز والأطراف قد يؤدي الى حرب أهلية ونزاعات مسلحة ونشوء مراكز متعددة بدلا من مركز واحد.
استطاعت الامارات إيجاد عصبية مركزية ممثل بالدولة تهيمن او تجمع العصبيات المحلية القبلية وفق مفهوم ابن خلدون. لا يمكن لنا الحديث عن التقسيم الطبقي في الجنوب حتى نذهب للحديث عن دولة تدير شئون الطبقات وفقا لبعض المفكرين الماركسيين او ان الدولة مفروضة على المجتمع وجاءت من خارجه وعلينا القبول بها وفقا للفيلسوف الألماني هيجل.
 في دراسته الهامة عن القبائل الجرمانية يقول  فريدريك انجلس :” الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. و لكي لا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام و تبقيه ضمن حدود “النظام”. إن هذه القوة المنبثقة من المجتمع و التي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه و تنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة.”  فريدك انجلس – اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ص115.
اذا كان المجتمع الجنوبي لا يتسم بوجود العلاقات الطبقية ولا التعددية الاثنية او الطائفية او الدينية  فإن التعدد القبلي هو احد اشكال التعددية أيضا ووجود دولة مركزية قوية هي ضرورة قصوى حتى لا تتفكك الاطراف ليس هذا فحسب بل ان غياب الدولة القوية لن يعرضها لهجوم اعدائها من بقايا النظام السابق وحسب بل الى صراعات داخلية مثلما تعرضت له الصومال من حرب مدمرة بين قبائلها رغم وجود التجانس الديني والعرقي والثقافي الكبير, كما ان المقاومة الجنوبية هي أيضا ممكن ان تتحول الى مليشيات متناحرة وقادة المقاومة الى امراء حرب على الطريقة الصومالية او الليبية.
اذا كيف يمكن ان نحقق شروط المشاركة السياسية القائمة على الديمقراطية التوافقية ونظرية تقاسم السلطة في ظل غياب الدولة وشروط قيام الديمقراطية.
مرة أخرى أود التأكيد على أهمية استخدام الاليات والوسائل الديمقراطية في مسيرة بناء الدولة الجنوبية حتى نتجنب قيام الديكتاتورية والحروب الاهلية والقبلية. أي ان يكون لدينا تصور وخطوات عملية واضحة في برنامج بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الجنوبية.
أيضا اود تكرار الإشارة الى التجربة الفيدرالية الاماراتية التي قامت على أسس ديمقراطية مكنتها من تأسيس دولة قوية نجحت في إيجاد استقرارا سياسي وتنموي بكل المقاييس الديمقراطية. واظن ان الباحث في شئون الحكم في الامارات سيجد ان الديمقراطية القبلية التقليدية هي السائدة وهي على كل حال شكل من اشكال الديمقراطيات التقليدية , كانت هذه التجربة او النموذج الفيدرالي القبلي قد أرسيت اسسه في الدولة الفيدرالية “اتحاد الجنوب العربي” عند تأسيس الاتحاد في 1959م لولا وقوع الجنوب في قبضة حركة القوميين العرب الشوفينية واختيارها للجنوب ليكون حقل يجرب فيه مشروع الحركة التاريخي والتي أخفقت فيه بكل تأكيد.
تشترط الماركسية الدولة بوجود الطبقات كمعبر عنها وبنائها الفوقي الناتج عنها وهي الحالة التي تغيب فيها هذه الملامح في المجتمع الجنوبي فلا توجد طبقة عاملة قوية ومنظمة او برجوازية فاعلة او غيرها فالتقسيم الطبقي في المجتمع الجنوبي ضعيف بالمقابل ستكون الدولة التي هي أداة طبقة لقمع أخرى وفقا للفلسفة الماركسية ضعيفة أيضا واظن ذلك صحيح الى حد كبير. فالمجتمع اليمني( الجمهورية العربية اليمنية) ذو السمة القبلية التي يخلو من وجود طبقات او تقسيم طبقي واضح جعل من دور تلك القبائل والمراكز القبلية يطغى على نفوذ الدولة بل ان الدولة كان عبارة عن سيطرة وهيمنة لقبيلة حاشد فهي الدولة وهي السلطة. هذا يقودنا الى ان الوجود الضعيف للدولة وسيادة اشكال ما قبل الدولة ستظل ماثلة في مجتمعنا الجنوبي وستظل القبيلة تلعب دور مؤثر في المجتمع الجنوبي خلال مرحلة التحول والانتقال من المرحلة الحالية الى المرحلة اللاحقة التي تسود فيها سلطة الدولة ويترسخ بنيانها ومؤسساتها والذي لن يحدث بغمضة عين دون ادنى شك فلا يجوز ان نحلق كثيرا في فضاء الديمقراطية دون وجود اجنحة قوية.
رغم كل الجهود التي بذلتها دولة الجنوب السابقة في بناء الدولة والتي حققت نجاحات كبيرة الا ان فشل السلطة السياسية التي اختارت النموذج الديكتاتوري لإدارة الدولة لم تنفع معه النوايا الحسنة او نظافة اليد التي تحلى بها قادة الدولة الخالية من الفساد فقد قادت الديكتاتورية الى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وهو ما نود التحذير منه والالحاج على ممارسة الديمقراطية في بناء مؤسسات الدولة الوطنية الجنوبية.
تنتصب امام المجلس الانتقالي الجنوبي مهام كبيرة تتعلق في توسيع قاعدة الحوار المجتمعي والسياسي ليس على الطريقة التي ينادي بعض مكونات الحراك في إيجاد حامل سياسي من خلال الحوار بين مكونات الحراك لان هذا مجرد عبث فالمكونات ليست مؤهلة لمثل هذه المهمة وقد أخفقت في ذلك خلال محاولاتها لأكثر من عشر سنوات ويلزمها قبل الدعوة للحوار المجتمعي الواسع ان تثبت انها منظمات قائمة على الأسس الديمقراطية وانها قادرة على اجراء الحوار مع بعضها للتوصل الى رؤية موحدة تعبر بشكل ديمقراطي عن أعضائها لان غياب مثل هذه الشروط سيجر المجلس الانتقالي الى مستنقع فوضى الحراك وسيتم اغراقه بداخلها لامحالة.
إقامة ورش العمل بشكل مستمر للوقوف امام أي مهام وطنية واشراك كل المكونات ومؤسسات المجتمع المدني في صياغة البرنامج والرؤى السياسية للمجلس.. بهذه الطريق يمكن لنا اخضاع المجلس للرقابة الدائمة والمساهمة في صياغة برنامجه الوطني الذي يجب ان يكون مقيدا به ولا يستطيع الخروج عنه او اتخاذ قرارات مصيرية دون اشراك مكونات المجتمع, فلا يكفي ان تقام المظاهرات والمهرجانات لتأكيد التأييد الشعبي للمجلس بل لابد من مشاركة واسعة في ورش عمل وحوارات موسعة ومعمقة عند اتخاذ القرارات.
الممارسات الديمقراطية لا تقتصر على المشاركة في الحكم وإدارة السلطة عبر الانتخابات بل ما هو اهم من ذلك هو المشاركة في صياغة القوانين والدستور والسياسيات العامة للبلد وإيجاد الرقابة على أنشطة السلطة من خلال الصحافة والاعلام وابتداع الوسائل التوافقية التي تسمح بالتغيير والوقوف في وجه أي ممارسات ديكتاتورية او فساد وغيره كذلك المشاركة في اقتسام الوظائف والثروة فلا يمكن ان ننتخب شخص ونترك له الصلاحية لتمكين قبيلته وعشيرته وحاشيته من كل الوظائف والسلطات على الطريقة التي عمل بها علي عبدالله صالح او عبدربه منصور هادي.
بين عصبية ابن خلدون وصراع العصبيات كمحرك للتطور التاريخي وطبقية كارل ماركس والصراع الطبقي يبلور المفكر والمناضل الإيطالي الماركسي أنطونيو جرامشي أفكار اكثر أهمية في هذه الصدد تتيح لنا إيجاد آلية للمشاركة الشعبية الواسعة في صياغة شكل المستقبل الجنوبي.
 يبلور غرامشي أفكاره عن المجتمع المدني بانه ليس فضاءا لصراع العصبيات حسب تعبير ابن خلدون او الطبقات حسب تعبير ماركس..  وإنما هو أيضاً فضاء لجميع النضالات الشعبية والديمقراطية التي تنبثق عن الطريقة المختلفة التي يتجمع فيها الناس معاً عبر النوع والجنس والجيل والجماعة المحلية والإقليمية والأمة ، وغير ذلك. وهو أيضا بالنسبة ل ” جرامشي ” أن المجتمع المدني ليس إفرازاً للنمط الإنتاجي ، أو بنية فوقية لقاعدة اقتصادية بل هو يقع ما بين القاعدة الاقتصادية والدولة بقوة قوانينها وجهازها القمعي
تعريف المجتمع المدني أيضا فيه جدل تاريخي لكنه حسب غرامشي  “ما يمكننا أن نفعله الآن، هو تحديد «مستوين» رئيسيين للأبنية الفوقية أحدهما هو ما يمكن أن نسميه «المجتمع المدني» “civil society” أي مجموعة الهيئات التي توصف عادة بأنها هيئات «خاصة» “private“، والمستوى الآخر هو «المجتمع السياسي» “Political Society” أو «الدولة». ويقابل هذين المستوين: وظيفة «الهيمنة»/«القيادة» “hegemony” التي تمارسها الجماعة الحاكمة في المجتمع كله من جهة، ووظيفة «السيطرة المباشرة» “–dir–ect domination” أو الأمر command التي تمارسها من خلال الدولة وحكم «القانون» government”Juridical” من جهة أخرى”. انطونيو غرامشي كراسات السجن القسم الأول – قضايا التاريخ والثقافة.

في تأكيد غرامشي على أهمية المجتمع المدني بما يؤدي الى تعزيز الهيمنة الفكرية على المجال الأوسط بين الدولة والقاعدة التحية والسيطرة على القاعدة التحية يتيح الفرصة للانتقال للسيطرة على القاعدة الفوقية الممثلة بالدولة وقوانينها وسلطتها.
هنا تبرز اهمية المجتمع المدني في المشاركة السياسية لمكونات الحراك التي تكاد تكون اقرب الى منظمات المجتمع المدني منها الى الأحزاب السياسية, يتطلب منا اليوم تعزيز دور النقابات في اطار المؤسسات لتمكينها من التأثير المباشر على سياسية الدولة ومراقبتها فالوضع اليوم يختلف بشكل جذري عن قبل لان منظمات الحراك عمليا قامت على أساس مجتمعي يكاد يكون منفصل عن مؤسسات الدولة التي كانت محتكرة من قبل العنصر اليمني وحرمان اغلب الجنوبيين من الوظائف وهو ما يفسر ضعف تأثير منظمات الحراك على مؤسسات الدولة رغم حجمها الكبير والتفاف الشارع الجنوبي حولها. لابد ايضا من تشجيع وتعزيز دور المؤسسات الحقوقية والمهنية في صياغة ملامح المستقبل عبر الحوارات والنقاشات وورش العمل بالإضافة الى توزيع السلطة والموارد بين المركز والأطراف وبناء سلطة مركزية قوية هي شروط ضرورية لترسيخ الممارسات الديمقراطية وتنمية الوعي والثقافة الديمقراطية كمكونات أساسية للدولة الوطنية الديمقراطية الجنوبية المستقبلية. بإيجاز لابد من المشاركة المباشرة عبر التواجد داخل مؤسسات الدولة والرقابة المباشرة لسياستها ويأتي هنا دور المثقفين في تنظيم وتنسيق نشاط وأدوات الضغط التي يمكن ان تمارسها مؤسسات المجتمع المدني وهي عادة الوظيفة التي تقوم بها الأحزاب السياسية.
في معركتنا من اجل بناء الدولة فلن يعيننا كثيرا التعاطف الخارجي او القوانين الدولية بل أن عامل القوة هو صمام الأمان في مواجهة الأعداء الخارجيين وعملائهم في الداخل وهو اهم قانون حقيقي عملي تبنى به الأوطان.
النقاش حول الديمقراطية قد يأخذ حيزا زمانيا ومكانيا كبيرا ولكن  الثورة مدعوة دون تأخير الى التصدي للمهام الملحة وعلى المجلس الانتقالي ان يضطلع بها والتي اراها في التالي:  
*بناء المؤسسات العسكرية والامنية المستقلة وتسلحيها وتدريبها لتكون قادرة على حماية المكاسب الوطنية من أي عبث داخلي او خارجي.
*اجتثاث بؤر الفساد ممثلة ببقايا نظام الاحتلال اليمني.
*ضم كل المليشيات القبلية او تلك التي تتبع بعض المقاومين الى المؤسسات العسكرية او الامنية
*اجتثاث بؤر الإرهاب وتجفيف منابعه المالية ووضع حد لاستخدام الدين والمتاجرة به من قبل أي جماعة سياسية او اطراف خارجية.
*تفعيل دور مؤسسات القضاء وإصلاح التعليمي بشكل عاجل
* اطلاق قناة فضائية جنوبية على انقاض تلك التي صادرتها قوى الإرهاب والفساد
* التحرك السياسي الخارجي.
تأمين الموارد المالية من خلال الاستيلاء على المؤسسات  الحكومية كالنفط والاسماك وميناء عدن والضرائب وغيرها وكذلك المؤسسات السيادية كالماء والكهرباء والهاتف واستعادة الصفر الدولي الجنوبي وتأسيس شبكة انترنت مستقلة لتأمين موارد كافية لتغطية نفقات الخدمات الضرورية ورواتب الموظفين ونشاطات المجلس.