fbpx
الديمقراطية بين النعرة والشطط (الحلقة الرابعة)
عبده النقيب
استعرضت في الحلقات الثلاث السابقة مقدمات في تعريف الديمقراطية وموقف التيارات المختلفة حيالها وبدرجة أساسية التيارات الإسلامية لما لذلك من أهمية كون الجنوب العربي مجتمع عربي إسلامي يقع في محيط تتلاطمه التيارات السياسية والإسلامية منها بدرجة أساسية وهذا ما يجعلنا نضع في اعتبارنا أهمية وجود رؤية دقيقة لكيفية التعاطي مع هذه المسألة والتفريق بين الدين كعقيدة تشكل جزء اصيل من بنية المجتمع الفكرية والثقافية والتاريخية والتعامل بإيجابية معه وبين التيارات السياسية والتكفيرية التي تنفذ اجندات حزبية واستخباراتية ومشاريع هدامة والتي يجب استئصالها فكريا وسياسيا واقتصاديا.
 
لم يعد هناك اليوم من مجال للمغالطة والتستر خلف الشعارات الدينية البراقة من قبل أي كان خاصة بعد ان تكشفت الاجندات السياسية لهذه التيارات والتي وضعتها المتغيرات السياسية على المحك فسقطت سقوطا عموديا بعد ان كانت تدعي قبولها بالديمقراطية وتدعي سعيها لإقامة الخلافة الإسلامية .. جميعها دون استثناء منيت بالفشل الذريع من أفغانستان الى ليبيا الى مصر والعراق وسوريا وتونس والسودان واليمن وغيرها واثبتت انها عبارة عن احزاب سياسية مشبعة بالحقد والكراهية لكل ما هو جميل وانساني تنتهج الفكر التكفيري المعادي لقيم الدين الإسلامي الإنسانية , قيم الحرية والتسامح أثرت العنف منهجا  والتكفير مبدأ لتحقيق أهداف سياسية باي ثمن كان. هذه التيارات السياسية التي ترفع شعار معاداة الغرب والاستعمار اثبتت انها أداة الغرب الاستعماري في تنفيذ اجندته داخل المنطقة العربية في نشر الخراب والموت والتخلف, وفي خلق الذرائع للتدخل الأجنبي وتعريض امن شعوب المنطقة والأمة العربية للخطر.
ومن العوامل التي تمتلك أهمية عند وقوفنا امام إشكالية الديمقراطية في المجتمع الجنوبي هي حقيقة ان الدولة الجنوبية تعرضت للدمار الشديد وحلت محلها العصبيات القبلية والمناطقية التي يرتبط تأثيرها بمدى قدرة المؤسسات الوطنية التي تتبع الدولة على بسط نفوذها وحضور الدولة وهو ما يجعلنا نؤكد على أهمية معالجة تأثيرات الروابط المناطقية والقبلية السلبية من خلال تعزيز دور المؤسسات الوطنية وسيادة النظام والقانون ورفع مستوى الوعي المدني بين أوساط الناس.
 
ليس من السهل علينا تجاوز الكثير من هذ السلبيات فتجربة بناء الدولة الوطنية الجنوبية قبل نكبة عام 1990م التي دمرتها وقضت عليها اثبتت رغم كل الجهود الإيجابية والكبيرة في فرض سيادة القانون وهيمنة مؤسسات الدولة ان الصراعات السياسية داخل مؤسسة السلطة كانت تستدعي هذه العوامل وتغذيها لمصالح شخصية لهذا الطرف او ذاك وكانت احداث يونيو 1978 و  يناير 1986م المأساوية دليل حي على ما نقول.
ما في شك ان معالجة إشكالية الصراعات العرقية او القبلية او القومية هي واحدة من التحديات الكبرى التي أخفقت فيها الأنظمة الشمولية التي تتبنى نموذج الحزب الواحد والديكتاتورية الطبقية مثل الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا السابقتين وحتى العراق وسوريا وليبيا حيث ظل العامل الاثني كامنا فيها وتفجر فجأة بشكل عنيف ومدمر بعد عقود طويلة من البناء الذي صاحبه نجاح كبير في جهود التنمية الاقتصادية في تلك البلدان.  على الجانب الأخر نجحت الأنظمة الغربية الليبرالية الى حد كبير في التخفيف من التأثيرات السلبية للعصبية ليس هذا فحسب بل ان الدول الحديثة العهد والتي تتسم مجتمعاتها بطابعها القبلي والبدوي وتفتقر الى ابسط القيم الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي الغربي نجحت بشكل كبير في معالجة هذه المسألة ولنا في الأردن والمغرب والامارات العربية والسعودية الى حد ماء وهو ما يدفعنا الى التأكيد على مسألة الديمقراطية كمنهج لحل مثل الإشكاليات التي يمكن ان تصبح مدمرة كما نرى اليوم في عدد من البلدان العربية ولكننا في نفس الوقت على حاجتنا للمراجعة الدقيقة  لفهمنا للديمقراطية وماهية الديمقراطية التي تناسبنا و ما هو مفهومها,  وهو ما اهدف اليه وأريد استخلاصه عبر استعراضي  لجملة القضايا في ورقتي هذه.  
هنا يبرز السؤال الأهم في ما هو مفهومنا للديمقراطية ؟ وما الهدف من الديمقراطية ؟ هل هي مجرد انتخابات حرة وتبادل للسلطة ؟ ما قيمة الانتخابات وتبادل السلطة وحرية الصحافة اذا لم تحقق التنمية والعدالة التي تمكن المواطن من الحصول على احتياجاته الضرورية , التنمية التي تحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي؟ الم يكن الغرض من الديمقراطية هو إيجاد الحكم الرشيد لكي تتحقق العدالة بمفهومها الشامل في المجتمع !؟ ثم كيف ان الأنظمة الملكية التي لا توجد فيها أي انتخابات من أساسه استطاعت ان تحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي اكثر من غيرها؟ أسئلة ملحة بالفعل تحتاج الى إجابة ولكن بكل تأكيد لن تكون مباشرة او سهلة. هذا ما سأحاول استعراضه في استخلاصاتي الأخيرة ولكن قبل ان اصل الى هذا اود ان اعطي مساحة واسعة لمحاولة فهم تأثير العوامل القبلية والمناطقية في مرحلة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية طالما وان المجتمع الجنوبي المدمر تحتل العلاقة القبلية لما قبل الدولة مساحة وحضور واضح في بنيته المجتمعية وثقافته.
ما في شك ان المجتمع الجنوبي يعيش حالة تخلف اجتماعي واقتصادي وثقافي شامل جراء تعرض دولته للتدمير ومؤسساتها للتهميش نتيجة لغزو القبائل اليمنية التي مازالت تعيش عصر ما قبل الدولة والتي استدعت معها الفوضى والعادات والتقاليد القبلية التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام مثل نحر القرابين والوساطات القبلية بدلا عن القانون وتحويل المؤسسات الى أدوات بأيدي شيوخ القبائل وغيرها.
كذلك لا يمكن تجاهل المكونات الاجتماعية المختلفة لمرحلة ما قبل الاستقلال الوطني التي سبقت عام 1967م فهذه الخصائص المجتمعية التقليدية تكاد تحاكي الأوضاع التي كانت سائدة قبل عدة قرون. على الرغم من وجود الطفرة الهائلة في الوعي المجتمعي التي احدثتها وسائل الاعلام والاتصالات المتطورة الا ان الفرد يظل محكوما في نهاية المطاف بأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية فيمكنك ان ترى دكتور في الفلسفة تخرج من افضل الجامعات الاوربية وما ان يعود الى اليمن حتى يتحول الى قبيلي يقدّس التخلف داخل عائلته ومع افراد المجتمع.
لفهم تعقيدات المجتمع الجنوبي من المفيد ان نسترشد  بمنهج ابن خلدون العلمي في تفسير قوانين حركة التطور للتاريخ.
المفكر الكبير عبدالرحمن ابن خلدون هو المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع استطاع تفكيك التراكيب المعقدة للبنية الاجتماعية الى أجزاء والتعرف عليها عن قرب بشكل مستقل ومن خلال الروابط بينها مجتمعة مستخلصا قوانين التي تتحكم بطيعة تلك العلاقة  ولم يسبقه الى ذلك احد بل ان المفكرين المعاصرين المتخصصين في علمي الاجتماع و التاريخ بنوا نظرياتهم على الأسس التي ارساها ابن خلدون نفسها. يقول عنه  اشهر واهم فلاسفة التاريخ الغربيين في العصر الحديث أرنولد توينبي ان ابن خلدون (قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ، هي بلا مراء أعظمُ عمل من نوعه ابتدعه عقلٌ في أي مكان أو زمان).
 وضع ابن خلدون الأسس النظرية لعلم الاجتماع الذي سماه حينها بعلم العمران وكذلك وضع الأسس الفكرية والنظرية لعلم حركة التطور للتاريخ من خلال نظريته عن العصبية والدولة .
العصبية  لدى ابن خلدون هي رابطة اجتماعية اقتصادية وسيكولوجية بين مجموعة من الافراد تقوم على رابطة الدم أو رابطة الحلف أو الولاء بالإضافة إلى شرط الملازمة. ” أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه وذلك أن صلة الرحم طبيعي فيالبشر إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة” أبن خلدون – المقدمة الفصل الثامن – الجز الأول.
 
يرى ابن خلدون ان العصبية ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالبدو بدرجة اقوى عنها في الحضر فهي تقوم على التعاضد والترابط بين الافراد في الدفاع عن بعضهم ليس كفرد بل كمجموعة والعصبية تقوم بدور الدولة في المدينة التي  تصد العدوان الذي يمكن يتعرض له الشخص او المجموعة .العصبية تحركها الغيرة او النعرة او الطبيعة البشرية المجبولة في الانسان للدفاع عن العرض والقريب. ولخص الجابري تعريف ابن خلدون للعصبية بالتالي ” انها القوة الجماعية التي تمنح القدرة على المواجهة سوآءا كانت المواجهة مطالبة او دفاعا” محمد عابد الجابري – العصبية والدولة ص 161.
 صنف ابن خلدون العصبية الى عامة وخاصة فالخاصة ممكن ان تكون في اطار عشائري قبلي صغير او دويل في اطار دولة اكبر كالدويلات التي نشأت  هنا وهناك في اطار دولة الخلافة الإسلامية والعامة هي بين عصبة او عصبيات ترتبط مع بعضها بالولاء والتحالف ولا ترتبط بالنسب ,وهذا يجعلنا نستخلص ان العصبة هي المجموعة التي ترتبط بعلاقة طبيعية تنشأ نتيجة رابطة الدم والملازمة,  لها مصالح مشتركة تجمعها في صراعها من اجل البقاء والحصول على العيش اللازم لذلك, وكذلك تقوم نتيجة الولاء والتحالف وتبقى الشراكة في المصلحة الاقتصادية هي العامل الحاسم في بقاء العصبية او زوالها. فإذا اخذنا مثلا قريبا من واقعنا يمكننا ملاحظة تمزق الرابطة العصبية بين رموز الفساد المنضويين في اطار “الحكومة الشرعية”  مع  ذويهم من الجنوبيين الذين اثروا التحالف والالتفاف حول المجلس الانتقالي نتيجة لعدم وجود أي مصلحة مع تلك الرموز رغم وجود صلة القرابة وعلى العسك قامت عصبية تربط بين تلك الرموز وعناصر لا ترتبط باي علاقة نسب او دم ولكنها وجدت منافع مادية مباشرة من التحالف مع هذه الرموز او العصبة.
العصبة ليست بالضرورة قبيلة ولكن ممكن ان تصبح اما اتحاد قبائل او امه تجمع عصباتها مصلحة مشتركة في السعي للحصول على لقمة العيش والدفاع المشترك لصد أي عدوان.
نستخلص من نظرية ابن خلدون هذه أن العصبة لا تقوم على رابطة الدم وحدها بل انها على الملازمة أي السكن المشترك او الوطن المشترك بالإضافة الى الولاء والتحالف أي العصبة المصطنعة, بين أولئك الذين يجمعهم الولاء والمصلحة وهذا ما يعنينا هنا ان رابطة الوطن او العصبة يمكن ان تنشأ بين من لهم مصلحة في العيش والدفاع المشترك أي ان أولئك الذين ينتمون الى الجنوب وتربطهم مصالح مادية بعصبة تناوئ الوطن فإنهم ليسوا من عصبتنا وهو ما يجرد البعض ممن لهم مصالح مع أعداء الاستقلال الجنوبي من وطنيتهم. الحفاظ على المصلحة الوطنية العليا هو معيار الوطنية ويجرّد منها من لا يحافظ عليها او يعمل ضد المصلحة الوطنية العليا وهذا الذي حدى بالمشرعين الى صياغة مادة قانونية تعرّف هذه الجريمة بخيانة الوطن وتحكم على مرتكبها بأقسى العقوبات.
 هؤلاء الذين يناصرون ويشاركون أعداء الجنوب وحريته واستقلاله  من الذين يسعون بشتى السبل لاستعباد اهله وبعد كل هذه التجربة المريرة والمعانة الشديدة لشعب بأكمله جراء جرائم من يرفعون شعار الوحدة ممن يشكلون خطر على مصالح الجنوبيين ويستهدفونهم كشعب بشكل عنصري فج .. هؤلاء المتحالفون معهم ومع توجهاتهم والمرتبطون بمصالح اقتصادية ومالية معهم لا يمكنني التردد في وصفهم بالأعداء.. ولا يمكنا وصف الوحدة بصيغتها التي عرفناها بالمشروع السياسي الذي يمكن ان نتفق او نختلف حوله بل انه عبارة عن عمل عدواني وحرب شعواء وغزو بربري يستهدف وجود شعب الجنوب وحقوق المواطنة وهو امر يجب ان يصنف بالجريمة. فهل يجوز اعتبار جريمة اغتيال شعب ومناصرة او مشاركة  أي شخص او اشخاص في هذه الجريمة امر ديمقراطي يصب في مجال حرية الراي!؟.
امر آخر أيضا نستخلصه من نظرية العصبية لابن خلدون انه مثلما تفقد العصبة بعض أعضائها نتيجة فقدان المساكنة او ما اطلق عليها ابن خلدون بالملازمة أيضا يمكن صناعة العصبية من خلال إيجاد عصبيات او مجاميع صغيرة او كبيرة لا فرق وتربطها مصالح مشتركة وبالإضافة الى الملازمة لبعضهم في اطار جغرافي معين وهو ما يدفعنا للحديث عن بناء الدولة الوطنية الجنوبية عبر تحالفات عصبية جنوبية تذوب في بعضها حتى تصبح  عصبة ..” واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية، وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة” أبن خلدون – المقدمة ج1 الفصل السابع واربعون ص207.
العصبة هي الوجود الطبيعي للمجتمع المصغر وهي بقدر ما تدافع عن بقائها ما أن تقوى شوكتها فإنها تتطلع للملك. يقول ابن خلدون. ” “اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه” مقدمة أبن خلدون الجزء الأول الفصل الثامن والعشرون صفحة 140. والملك لن يقوم الا  بالعصبية والغلبة او الشوكة حسب ابن خلدون وهي التي تعادل  القوة  التي تتبناها النظريات الحديثة الخاصة ببناء الدولة.” اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما. فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين.” المقدمة ج1 الفصل السابع واربعون ص207
هنا تبدو شروط قيام الدولة الوطنية الجنوبية هو وجود عصبية جنوبية جامعة لكل العصبيات الصغيرة وهو ما يمكن ان نعبر عنه بالمجلس الانتقالي الممثل لكل مناطق الجنوب المتعددة وتبقى ضرورة وجود المال والقوة كشرط أساس لاستمرار العصبية الجنوبية مما يجعل مهمة استيلاء المجلس الوطني الجنوبية على الموارد لتأمين المال الضروري وبناء قوات مسلحة جنوبية يقودها المجلس امر حاسم في هذه المسعى.
 ابن خلدون تحدث عن العصبية والعصبيات في مجتمع القرن الرابع عشر الميلادي الذي عاش فيه لاشك ان خياله وفكره كان غير قادرة على تصور وجود برامج التواصل الاجتماعي ووسائل السفر والاعلام التي خلقت شروط جديدة للملازمة او المعاشرة تتجاوز الحدود الجغرافية والزمانية والاجتماعية مما يحقق الشروط لقيام العصبة والعصبية في عنصرها الحاسم المرتبط بالمصلحة أي بالعامل الاقتصادي وسبل العيش التي كانت تقتصر في عصر ابن خلدون عند البدو مثلا على ما هو ضروري من اجل حفظ النفس من الهلاك أي الصراع من اجل البقاء فالعصبية ضرورية للقيام بمهمة تنظيم العلاقة بين أفراد العصبة اوبين العصبة والعصبيات الأخرى.
واعتبر ابن خلدون العصبية سلاح ذو حدين اما وان تكون عامل يعزز قوة العصبية والدولة أيضا وممكن ان تكون عامل يضعف الدولة او يدمرها. فلو اخذنا الصراع السياسي الدامي بين اطراف عصبة الحزب الاشتراكي اليمني خلال الفترة التي امتدت بين  الاعوام   1967-  1990م  كان عاملا سلبيا اضعف الدولة الجنوبية وادى الى انهيارها وعلى النقيض أدى نجاح الحراك السياسي السلمي الجنوبي الذي قاد عملية التصالح والتسامح الجنوبي الجنوبي في صنع وعيا وحدويا تضامنيا كفاحيا جنوبيا جنوبيا وشكلت حالة العداء المشتركة التي تجمعها ضد القوى اليمنية واليمننة التي تستهدفهم في قوتهم ومعاشهم عامل اقتصادي حاسم لإنجاز الكثير من المكاسب السياسية وإرساء أساسا لعصبتهم المتمثل في الدولة الوطنية الجنوبية المستقلة التي مازالت تعيش مخاض الولادة العسيرة. ومثله أيضا كان التحالف وتقاسم المصالح بين اطراف حملة الغزو اليمني في عام 1994م عامل قوة مكنهم من النصر وتمكين عصبتهم من السلطة وعندما اختلفت مصالحهم تفككت عصبتهم وادت الى انهيار دولتهم رغم كل الإمكانيات الضخمة التي بين أيديهم جميعا. هنا يبدو لنا جليا في الحالتين السابقتين ان رابطة النسب ليست ذات أهمية كبيرة والملازمة ايضا تلعب دور ثانوي مقارنة بالعامل الاقتصادي او المنفعة المادية المباشرة التي تبدو حاسمة في بقاء او سقوط العصبية والعصبة( الدولة).
سؤال آخر بديهي يضع نفسه علينا هو: هل ان الوعي بخطورة الصراع داخل العصبة على مستقبلها يمكن وقفه او تجنبه؟ الإجابة تبدو أيضا جليه بان المصالح التي تنشأ نتيجة حالة التطور التي تطرأ على العصبة يخلق ثقافة وعي جديدين مختلفين لدى اطراف العصبة. الجيل الذي يصنع الدولة ويكد لأجل بنائها يختلف عن الجيل الثاني وكذلك الثالث والرابع الذي تتكدس الثروة بين يديه ويتعود على حياة الرفاة والتبذير والبذخ فيضعف لديه الإحساس بالحرص على مصالح الدولة وهو ما يمكن ان نطلق عليه اليوم باستشراء الفساد الذي يعد سببا رئيسا لترهل الدولة ( العصبة) وانهيارها. شبه ابن خلدون الدولة بالإنسان ومراحل نموه وربطها تقريبا بأربعة أجيال تقترب من 120 عام يقصر او يطول عمر الدولة وفقا لمدى العناية بها.
 
نظرية العصبة لدى بان خلدون بعناصرها الرئيسة اقتبسها منه بحذافيرها المفكرون الماديون وفي طليعتهم كارل ماركس فالعصبة  لديه هي الطبقة الاجتماعية في صراعها على السلطة مع الطبقات او العصبيات الأخرى وهو ما داب ماركس على وصفه بالصراع الطبقي وان الغلبة التي قرنها ابن خلدون بالعصبة هي لدى ماركس القوة او العنف الثوري والقهر الذي تمارسه الطبقات المسيطرة في صراعها مع العصبيات الاخرى وادرك ابن خلدون ان العصبية تسعى الى السلطة عن طريق الغلبة اي القوة التي تعد المحرك للتطور أي انه نتيجة هذا الصراع المستمر تقوم وتفنى الدول وتكتسب علمية الصراع اساليب ووعي مستمر  يتطور ويتجدد وهذا الذي اكد عليه ماركس بالصراع الطبقي كقوة محركة للتطور والتاريخ.
 تتجلي عبقرية ابن خلدون الذي عاش في قرون انحطاط الدولة الإسلامية وحضارتها في نظريته عن العصبية والدولة حينها كانت الكنيسة تسيطر في أوروبا التي تعيش في ظلام دامس وهو الذي جعل علماء أوروبا غير قادرين على اكتشاف أفكار ابن خلدون الا في القرن السابع عشر وبدرجة اكثر في القرن التاسع عشر بل وظلوا ينكرون فضله واسبقيته وعبقريته الى انصفه البعض فقط في القرن العشرين.