fbpx
رسالة إلى المثقفين والسياسيين في شمال اليمن.

د عيدروس نصر ناصر
السلام عليكم ايها الإخوة الزملاء.
كالعادة تظل القضية الجنوبية في صدارة المشهد السياسي اليمني، تخفت الأصوات المناصرة او الرافضة لها حينا ثم لا تلبث أن تعلو من جديد كل ذلك بسبب حيوية هذه القضية وعدالتها ومشروعيتها، ولكن إيضا لإصرار قوى وعناصر واصوات نافذة على تجاهل هذه القضية او تقزيمها بل وازدراء وتحقير المتمسكين بها والبحث لهم عن اتهامات لا يصدقها حتى الذين يطلقونها.

 
رحم الله الشهيد الدكتور محمد عبد الملك المتوكل (الذي جرت تصفيته قبيل الانقلاب الحوفاشي بأيام) الذي كان يقول إن قضية الوحدة والانفصال يجب أن لا تؤخذ بمعزل عما تحققه من مصالح للناس، فإذا كان في الوحدة ضررا على الناس فيجب أخذ هذا الضرر بالاعتبار وإذا كان في الانفصال مصلحة للشعب اليمني شمالا وجنوبا فيجب التعامل مع هذه القضية بجدية واخذ مصالح الشعب فوق كل اعتبار.

 
ومثل د. المتوكل هناك عشرات وربما مئات المثقفين الشماليين أمثال الشهيد جار الله عمر و الاستاذ عبد الباري طاهر والمرحومين اسماعيل الوريث ويوسف الشحاري واحمد قاسم دماج وغيرهم عشرات لكن هؤلاء لم يكونوا يوما في موقع قريب من صانعي القرار (الشرعيين أو الانقلابيين) بل إن الطرفين ظلا ينظران إليهم كشواذ تنبغي معاقبتهم.

 
للأسف الشديد رغم المياه الكثيرة التي جرت تحت جسر الحياة منذ ٧ / ٧ / ١٩٩٤م حتى العام ٢٠١٧٧م ما يزال قطاع واسع من متعاطيي السياسة والمثقفين في شمال اليمن (باستثناء المحسوبين على الطرف المهزوم في حرب ١٩٩٤م) ما يزال هذا القطاع متمسكا بلحظة ٧ / ٧ ولغتها ومفرداتها ومنطلقاتها ونتائجها، ومنذ ايام وفي إطار حوار مع عدد من الزملاء السياسيين والبرلمانيين صدمت عندما كان الهاجس المسيطر على خطاب معظم الزملاء يتلخص ان حرب ١٩٩٤م قد حمت الوحدة وهزمت الانفصال، وعندما سألتهم: أين هي الوحدة التي حمتها الحرب؟ وهل فعلا هزم الانفصال أم إن عددا من الانفصالات قد انتجتها هذه الحرب؟ لم القي ردا.

 
لن اخوض في التفسير الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والثقافي لمفهومي “الوحدة والانفصال” ومن هو “الوحدوي ومن الانفصالي؟” فقد كتبت كثيرا في هذا الصدد لكنني ادعو زملائي المثقفين والسياسيين الشماليين الذين ارتبط بكثير منهم بعلاقات ود واحترام لم تزعزعها عواصف الزمن ولا تباينات المواقف السياسية، أدعوهم إلى إعمال عقولهم والتساؤل: لماذ شهدت اليمن ما شهدت من انهيارات متتالية منذ العام ١٩٩٤م؟ ولماذا ما يزال الغالبية العظمي من ابناء الجنوب يشعرون بأنهم مستبعدين من المعادلة السياسية اليمنية وأنهم مجرد ملحق عددي في كل ما يعتمل في اليمن وما يدور في الخارج بصدد الشأن اليمني ؟ ولماذا نجح الجنوبيون في دحر المشروع الانقلابي المدعوم إيرانيا بينما توقفت النجاحات في شمال اليمن عند فرضة نهم والأطراف البعيدة لمدينة تعز؟

 
لا يمكن لمعاندة الحقائق الماثلة لكل ذي عينين أن تصل باليمنيين إلى حلول قابلة للتحقيق وقادرة على الصمود في وجه قوانين حركة المجتمع وتطوره، ولم يعد امام اليمنيين إلا مراجعة المواقف واستخلاص دروس جديدة مما جرى من متغيرات عاصفة على الارض اليمنية حتى وإن كانت تلك الدروس لا تتفق مع تمنياتنا ورغباتنا.

 
ليس السياسي أو المثقف الناجح ذلك الذي يتمسك بموقف جامد على مدى ربع قرن ويصر على إقناع الناس بأن هذا الموقف هو الصواب الوحيد وما عداه هو باطل حتى وحقائق الواقع تبرهن خطل هذا الموقف واستحالة تحقيق ما يبتغيه من نتائج؟ السياسي الواقعي والناجح هو الذي يجري مراجعات كلما استجد في الامر جديد؟ وأهم ما تتضمنه هذا المراجعات الإجابة على الاسئلة المعقدة المتصلة بما يعتمل على الأرض وفي هذه القضية التي نحن بصددها السؤال المحوري: لماذا يرفض الجنوبيون استمرار وحد ٧ / ٧ ويصرون على التمسك باستعادة دولتهم بحدود ٢١ مايو ١٩٩٠م بعد أن كانوا هم السباقون لرفع شعار الوحدة على مدى ربع قرن وأكثر قبل العام ١٩٩٠م؟

 
ولماذا تعرضت دولة ٧ / ٧ لكل ما تعرضت له من اهتزازات عاصفة أوصلت إلى ثورة ٢٠١١١م ثم الانقلاب على الجمهورية والديمقراطية (الجنينية المشوهة) وعلى ثورة الشباب نفسها ؟ ولماذا وصلت اليمن إلى هذا المستوى من الانهيار في حين يخطو العالم باتجاه النهوض وقيام دولة المواطنة والانظمة العادلة ودولة الرفاه؟.

 
لست بصدد الرد على هذه الأسئلة فهي ينبغي ان تكون موضوع بحث لكل معني بقضايا الفكر والسياسة لكنني ساتحدث هنا عن القضية الجنوبية باعتبارها محور تناولتي هذه.

 
يمكننا البحث عن عشرات المبررات الخادعة لنقنع انفسنا ونشوه مطالب الجنوبيين بدء باستدعاء المشروع الإيراني المهزوم من قبل الجنوبيين وحدهم ونعلم جميعا أن هذا الاستدعاء ليس إلا هروبا احتياليا من الإقرار بحقائق يؤلم البعض الإقرار بها وانتهاء بالمؤامرة الدولية الهادفة إلى “تمزيق اليمن” التي لم يمزقها أحد اأكثر مما مزقها المتنفذون في طبقتها السياسية.
في علم الفلسفة يقال دائما إن العوامل الداخلية هي الحاسمة في كل ما تشهده هذه الظاهرة او تلك من تغيرات وتفاعلات وتناقضات وما دور العامل الخارجي إلا دورا ثانويا قد يسرع وقد يبطئ من عملية التغيير هذه.

 
أعود مرة أخرى إلى ما كنت بدأته فيما يخص القضية الجنوبية للإشارة إلى إنه لم تتعرض قضية في التاريخ اليمني للتشويه والتجاهل كما تعرضت القضية الجنوبية، ويكفي فقط ان نتذكر ان مئات الفعاليات الاحتجاجية التي شهدتها محافظات الجنوب لم تعرض الا على عدد الاصابع من مئات القنوات والمواقع الإلكترونية منها عشرات القنوات والمواقع ليمنية عدا بعض القنوات والمواقع التي تتناولها من منطلق التشويه والتشهير والاتهام والتحقير، ومع كل ذلك بقيت القصية الجنوبية حية وحاضرة بل وازادت زخما وحيوية كلما تعرضت للتشهير والتشويه والإساءة والاتهام.

 
للأسف الشديد كان الكثير منكم ممن يعلنون وحدويتهم يسلكون سوكا انفصاليا مع الجنوب والجنوبيين من خلال تحقير مطالب الجنوبيين واللجوء إلى الاتهام ب”العمالة للخارج” وتنفيذ ” مخطط معادي” وأخيرا جاء اتهام المقاومة الجنوبية التي هزمت المشروع الإيراني ولقنته امر الدروس وأقساها بالعمالة لإيران ولن أتحدث عما تضمنته أقاويل لسياسيين وكتاب معتبرين بأن المتظاهرين هم مجموعة من بقايا الهنود والصوماليين وغير ذلك من الأحاديث التي تهبط بالسياسة إلى قاع الإسفاف والابتذال.
ربما يستدعي الامر الخوض في الكثير من التفاصيل للرد على التساؤلات التي تطرحها هذه القضية لكنني سأكتفي بالتأكيد على الحقائق التالية التي يأبى كثيرون الإقرار بها.
١. إن الاستمرار في التعاطي مع ثنائية “الوحدة والانفصال ” بلغة وعقلية ٧/ ٧/ ١٩٩٤٤م هو أمر ولى زمنه ومن لا يدرك هذه الحقيقة إنما يغالط نفسه ويخدع الناس الذين يعتقد انه يمثلهم أو يدافع عن مصالحهم.
٢. إن جنوب ٢٠١٧م ليس كجنوب ١٩٩٤٤م وهو ما يعني أن زمن الاستقواء والتضليل والإكراه قد ولى ومن يعاند هذه الحقيقة إنما يصر على إلحاق المزيد من الأذى بالشمال والجنوب على السواء.

 
٣٣. إن تجربة الوحدة العشوائية القائمة على العاطفة او الخديعة قد فشلت وسبب فشلها عوامل عدة موضوعية وذاتية لكن اهمها إن من أعلنوا الوحدة قد انطلقوا من منطلقين متناقضين لم يلبث التناقض بينهما ان تجلى في ما شهدته الفترة الانتقالية من صراعات انتهت بحرب ١٩٩٤م التي وأدت كل ما تبقى من أحلام نبيلة عن الوحدة التي تطلع عليها اليمنيون.

 
٤٤. إن الوحدة التي ما يزال البعض يتحدث عنها بتشبث وإعجاب لا يمكن أن تتحقق بالقوة والإكراه وهو ما بينته تجربة ربع القرن الفائت من الفشل والإخفاق والاضطراب والمواجهة، ومن لم يتعض من هذه التجربة أنما يصر على التمسك بالفشل وتقديس الضلال وتقديمه على إنه الرشد والهدى والحق المبين.

 
٥٥. لقد عاش اليمنيون مئات السنين إخوة متآزرين متراحمين رغم وجود دولتين مستقلتين أو اكثر، وما اقول دائما ” لقد كنا شعبا واحدا بحكومتين” وكان اليمني يقابل اخاه اليمني في اي بلد في العالم ويبتهج به كما يبتهج باخيه من ابيه وأمه لكن كارثة ١٩٩٤م قد حولت اليمنيين إلى مجموعة من الكتل المتعادية او كما اقول دائما “إننا قد صرنا شعبين متباعدين وإن بحكومة واحدة” كان هذا قبل الانقلاب الحوفاشي أما بعده فقد تعددت الحكومات وتعددت الشعوب .

 
وبالتالي فإن تجاوز هذه الحقائق والإصرار على التمسك ب”إنجاز ” ٧/٧٧ إنما يعني السير في طريق المزيد من التعقيد والمواجهة مع دروس التاريخ.

 
إن من المنطقي لليمنيين ان يعيشوا سلاما ووئاما وتعاونا وأخوة في دولتين شقيقتين متعاونتين متكاملتين أفضل من أن يصر أحد الأطراف على إكراه الطرف الآخر في الانخراط معه في دولة تقوم على الاستقواء والقمع والمصادرة والإكراه وقبل ذلك وبعده على نتائج حرب ظالمة ومدمرة انتجت من المآسي ما لم يستفد منه إلا أثرياء الحرب الذين ما يزالون هم الممسكون بصناعة القرار في طرفي الصراع “السلطة الشرعية والسلطة الانقلابية”.

 
وعندي يقين أن احدا لن يقول لي انتظروا حتى تنتصر الشرعية وستعالج لكم القضية الجنوبية لأن أغلب المتمترسين في صف الشرعية هم من ابطال ٧/٧ ممن لم يخطوا خطوة ولو صغيرة باتجاه رد الاعتبار للجنوب والاعتذار له عما ألحقوه به من أذى والاستعداد للتنازل عن منهوباتهم من ثروات وحقوق الجنوبيين ووظائفهم ومنشآت دولتهم والتعويض عما ألحقوه من أضرار بالتاريخ والهوية الجنوبية والتراث الجنوبي ومن تعطيل للمستقبل الجنوبي وحرمان الجنوبيين من حقوق كانت حتى ٦/٧ ١٩٩٤م من بديهيات حياتهم ثم صارت أثرا بعد عين بعد ٧/٧.

 
اما مخرجات الحوار الوطني فكلكم يعلم بانها قد طبخت بدون مشاركة جنوبية حقيقية عدا من تمثيل صاغه المخرجون على اهوائهم فانقسم الحاضرون في هذا التمثيل بين طرفي الصراع وانسحب المتمسكون بالقضية الجنوبية وبقي الجنوب خارج المعادلة كما طيلة ربع قرن مضى.

 
أختتم رسالتي هذا بالدعوة لمراجعة موقف السياسيين والمثقفين الشماليين من القضية الجنوبية وتبني موقف صريح يرفض وحدة الاستقواء والإكراه ويدعو الى الوئام بين الشعبين في الشمال والجنوب والإقرار بحق الجنوب والشمال على السواء كل في تقرير مصيره بعيدا عن الوصاية والإلحاق أو الاتهام والتشهير.

 
كما ادعو السياسيين والبرلمانيين الشرفاء إلى التجرد من المواقف القائمة على الولاء الحزبي والايديولوجي والكف عن التمترس بوعي او بدون وعي دفاعا عن مصالح اللصوص السياسيين والناهبين والمتاجرين بالمعاني العظيمة لمفاهيم “الوحدة والثورة والجمهورية” بعد أن أشبعوها تشويها وتفكيكا واستغلالا لتكريس مصالحهم الانانية والحزبية .
والله من وراء القصد.