fbpx
صفحة من ذكرياتي عن جمعة الكرامة:

 

د.أحمد محمد قاسم عتيق

كنا نرتاد الساحة صباح مساء ،نتحلق في الخيام ،وفي المنتدى الأكاديمي في خيمته الأولى عند بوابة الجامعة نناقش الثورة ،وماقد يحدث على المستويين السلبي ،والإيجابي ،الشبابي ،ثم الشعبي ،العسكري ،والمدني ،الاقتصادي ،والسياسي ،الاجتماعي ،والثقافي ..
وحين رجوعنا إلى منازلنا عند الساعة العاشرة ، أو الحادي عشر ، وإذا إقتضت الحاجة بعد الساعة الثانية عشر ليلاً .. نحاول من خلال ذلك إستشراف مستقبل الثورة ،واليمن ،والمعوقات التي قد تحول دون نجاح الثورة ،ونكتشف أن العوامل المحفزة للنجاح أكثر ..
وشهدنا في ذلك أحداثاً كثيرة منها ( الثلاثاء الدامي 8/3/2011) ،(والسبت المشؤوم 12/3/2011) ، وأتذكر في السبت أننا سمعنا الرصاص في وقت الفجر ونحن في المنازل ،وغزى بيتنا دخان الغازات المسيلة للدموع ،وتواصلت مع أكثر من صديق من الأطباء ،والصيادلة ،كي يذهبوا للساحة للإسعاف .. و عبر إتصالي لصديقي سفيان عرض عليا شئ في نفسي وهو الذهاب للساحة في تلك اللحظة ،وإلتقينا في الشارع ثم إلتحقنا بطلاب مدرسة هائل وغيرهم وحاولنا إقتحام حواجز المصفحات ،والمدرعات بهدف الإلتحام مع رفاق الثورة ،و رأينا كيف كان يصنع أولئك الطلاب الأبطال الخدع بالإلتفاف عبر الشوارع الفرعية على مصفحات ومدرعات الأمن والحرس العائليين ..
وعند وصولنا إلى جولة القادسية (سيتي مارت ) بعد مشقة شاهدنا ملامح البطولية للثوار الذين كانت روحهم تنتصر لأنها تحمل عقيدة الحب للدين ،والوطن على أولئك الذين باعوا أنفسهم لمن أصبح مسخاً ،وليس لديهم عقيدة إلا حماية مملكة صالح ..
لاقيت الكثير من الزملاء، والأصدقاء الذين إندهشوا بوجودي ،و كانت ملامحهم عليها تساؤلات كثيرة عن سبب وجودي في هذه اللحظة وأنا أعمى ،والبعض كان يقولها صراحةً ،والبعض يخفيها تأدباً ..
وكانت إجابتي ببساطة جئت لأتبرع بالدم لمن بذل روحه فداءً للوطن ،و وجدت الدكتور محمد الظاهري فوجئ بي وفرح كثيراً ،وتحدثنا دقائق مع بعض والناس ينزعون صور المخلوع ،ويمزقونها وقال لي آنذاك أن إبنه جرح ،وهو يفتخر بذلك .. سألته عن حالته فقال لي :لا أدري حتى الآن..

وجدت من المهم أن أحكي بعض ذكرياتي قبل الحديث جمعة الكرامة …
وذلك لعظمة ما حدث في جمعة الكرامة .. فهو يوم ليس كالأيام ،وجمعة تفردت من حيث الحدث، والجمع ،والموضوع ،والخطبة للثائر البطل فؤاد الحميري .
وصلت في هذه الجمعة للصلاة وكان موقعي أنا ،وصديقي محمود الحمادي يبعد عن المنصة بحوالي ستين متر ،وقد إستمعنا إلى الخطبة التي أيقظت مشاعرنا ،وأنعشت عواطفنا ،ورفعت من وعي الحاضرين بأهمية الإنتماء بكرامة للوطن ،أثناء إستماعنا لخطبة الجمعة في نهايتها بدأ الناس يستشعرون حدث ما بسبب رؤيتهم للدخان الذي بدأ يضايق النفس ،ويحجب الشمس ،ويلوث الهواء ..
أكتشف في ما بعد أن هذا الدخان لباس المجرمين ،وطريقاً معبداً للرصاص الذي إخترق رؤوساً،وصدوراً عارية إلا من حبها للوطن .. ذنبها الوحيد أنها قالت لا للطغيان ،وحددت بإنطلاق ثورتنا السلمية موعداً ينجز فيه النصر على الظلم ،والاستبداد ،يُستعاد فيه الحرية ،تعلو من جديد قيم الكرامة التي كانت قد امتهنت ، يُصدر فيه تاريخاً جديداً ،ومضيئاً ليمن حر خالي من الفساد ،والفوضى ،تسود فيه فقط قيم المحبة والسلام ..
أنجزنا صلاتنا بدأت الأمواج البشرية المتلاطمة تشق طريقها رغم الزحام إلا أنه ما كان ثائر يدوس على ثائر لأنه لا يريد إلا أن يدوس على الاستبداد ،وعصابة المسخ ، ويوقظ الضمائر الميتة عند أولئك الذين قبلوا أن يكونوا عبيداً مُحتقرين لصالح ..
وكنا نهتف : (الشعب يريد إسقاط النظام ) ،وتارةً (هييييييييه هيييييييييه إرحل يا علي ) ،وشعارات كثيرة متداخلة ولكنها كانت تشكل سنفونية عظيمة نغماتها،آهاتها ،حركاتها ،معانيها تتمحور جميعها حول فقط حب اليمن ،والتخلص من الظلم ..
وفي الطرف الآخر كان الرصاص ،والغاز ،والنار كلها تهتف: (الرئيس يريد قتل الشعب) .
بدأ أول الشهداء يمر من أمامنا وقد كنا وصلنا أمام (سيتي مارت ) وتلاه الثاني ،والثالث ،والرصاص مستمر ،والناس ببطولتهم يستبسلون في الدفاع عن الساحة ،وفي القبض على أولئك القتلة ..
كنت قد سألت صديقي محمود الحمادي : ما رأيك اليوم لو بقينا في الساحة ..؟! فوافقني على ذلك ،وكان الرصاص يتحدث مع كل من في الساحة بقسوة وكان كل رصاصة قد إرتدت روح (علي صالح ) ..
وبعد أن وافقني صديقي على البقاء مرت رصاصة من بين رأسينا فصُمّت آذاننا ،شعرت في تلك اللحظة بالنشوة ،أن لحظة الكرامة بالإستشهاد قد قربت ..
ولكنه فاجئني بالقول :(يا دكتور معانا جهال يلا نروح ) بعد أن كان قد آثر البقاء والغداء في الساحة..
فتسآئلت : (ليش مالك يا محمود ..؟! مش قلنا بنجلس ..؟! يا محمود محد بيصاب إلا إلي مكتوب له الشهادة ..؟! ) .
قال لي : (يا دكتور ما فيش صفاط الجهال بيقلقوا ).
فوافقته على مضض ،وعدنا أدراجنا حتى وصلنا الفرع الذي قبل فندق مرسيليا متسللين إلى العودة كالجبناء ،وحينها قد وصل عدد الشهداء إلى 14 شهيد .
وصلت إلى البيت والشريط الأخباري يظهر بأن عدد الشهداء قد وصلوا إلى 32 شهيد .
كنا نتحدث أنا ، وأم البراء ،وغدير ،وعبير ،وهديل ،والبراء الذي كان عمره 3 سنوات ونصف آنذاك بلغة الدموع والآهآت كنا ننتحب على أشد ما يكون الإنسان حزناً ،والبراء بدوره يتقزز وينقبض من الصور البشعة للقتل ،ويقول هذا علي عبدالله صالح يا بابا يقتل المتظاهرين..؟!).
كان طعام الغداء ينادينا ،ويلح بوجوده أمامنا ولكنا كنا قد نسيناه وشربنا الدموع ،وإقتتنا الحسرات بدلاً من وجبتنا .
وحينها قررنا العودة إلى الساحة والرصاص مستمر ،وحصل حوار حول ذلك واستقر الأمر على أن أذهب انا وابنتي عبير،والبقية يلحقون بنا عند الساعة الخامسة .
خرجت انا وعبير والشوارع غير الشوارع ،والناس قد لبسوا الحزن ،وكلٌ يهيم في فلك يعتقد أنه وحده فيه بينما الكل يعيش نفس الفكرة ..
في تلك اللحظة، وبنفس العمق ،وعلى أوتار الألم يمقتون فعل الطاغية ..
كيف لا ..؟! وهو قد أراد جرح الكرامة ،وقتل الحرية ،و وأد روح الثورة اليمنية ..
ولكن هيهات فجمعة الكرامة كانت حدث ،وتاريخاً مفصليين في حياة اليمنيين ،وقيمة سمت بها الكرامة ،وسقط بها النظام ،واستعاد اليمنيون ثقتهم بأنفسهم ،ودماء الشهداء حاصرت صالح وعصابته .إذ أصبحوا يتخبطون عاشوا زمناً هستيرياً فقدوا به زمام المبادرة ..
ولكنا للأسف أضعنا في ذلك اليوم ،وما تلاه بأيام قليلة بوصلة النصر ..
ما أدى إلى أن يستعيد نظام الفوضى لصالح أنفاسه فعاد يُحيك الدسائس ،والمؤامرات ،على ثورتنا السلمية ،وساعدته في ذلك التراخي في ما بين داعمي الثورة داخلياً ،ودعمه خارجياً للبقاء في السلطة على حساب الثورة ..
وصلت أنا وعبير إلى الساحة عبر شوارع فرعية ملتوية لأن الحرس والأمن العائلي كان منتشر بالشوارع المحيطة بالساحة ،ووجدنا عندئذ أن كل الثوار قد لبسوا الحماس ،والروح التواقة للإستشهاد وكأن الله سبحانه وتعالى قد قلد كل واحد منهم وسام النصر وطبع على جبينه علامة حصرية ،وعنوان أوحد للكرامة ، والحرية، والنصر ..
ليبدأ الثوار مرحلة جديدة من هذا اليوم كان لها ما بعدها من تساقط النظام ،وتفكك أركانه ،وما آلات زواله بعفونة إجرامه ،وقبح مسلكه عن حياة اليمنيين ..

الثورة تسري في أوردة حياة الشعب اليمني ..
والنظام ينكمش إلى أن يزول إن شاء الله ..
حتى وإن حاول العودة ممتطياً الرصاصة فإن ثوار الكرامة له بالمرصاد حتى تحرير كامل اليمن من الاستبداد.

كاتب وناشط سياسي.