fbpx
آثار جبل “حَبَة” .. وحكاية “أول بَرعة لصاحب حَبَة”

 

علي صالح الخُلاقي:
جَبَل “حَبَة” في سرو حِمْيَر –يافع ، يُنسب إلى أحد رجالات حِمْيَر هو “حَبَة بن زُرعة بن سبأ بن وائل بن سدد بن زُرعة بن سبأ الأصغر”، كما ورد في (الأكليل)، ويرتفع عن سطح البحر 2400متراً، وهو أحد أشهر ثلاثة جبال في هضبة يافع العليا، إلى جانب جبل “ثمر” وجبل “العُرّ”. ويقع في منتصف “مكتب الحضارم” أحد مكاتب يافع العشرة، وتمر في بطن الجبل من الجيهة الجنوبية طريق السيارات الرئيسية المعبدة التي تربط مديرية لبعوس بمديرية الحد –يافع وكذا بمحافظة البيضاء المجاورة مروراً عبر جبل العر الشهير.
ذكر الهمداني جبل حَبَة في كتابه “صفة جزيرة العرب” في حديثه عن سَرو حِمْيَر وأوديته وساكنه، قائلاً:”العر لأذان من يافع، وثمر للذراحن من يافع، وحبة للأبقور من يافع”. ويتوسط جبل “حَبَة” المسافة بين جبل “العر” شرقا وجبل “ثَمَر” غرباً، وتنتشر حوله قُرى “حَبَهَات” وأوديتها، ففي جهته الشمالية تقع إلى الغرب قرية “الشقراء” المطلة على نقيل “ذَبُوب”، أما في طرفه الشمالي الشرقي فتقع قرية “سُمَارة”، المطلة على هاوية سحيقة تؤدي إلى وادي حطيب. وإليها يُنسب المثل اليافعي (لا تجْزِعْنَا أيْسَرْ سُمَاره) أي لا تمر بنا يسار “سماره” حيث الهاوية الجبلية الخطرة والمرتقى الأصعب، ويضرب المثل لمن يحاول تغيير مسار الطريق أو الحديث عن وجهته الصحيحة، أو يبتعد عن جوهر المسألة.
وإلى الجنوب الشرقي لجبل حَبَة تقع قرية “حَبَة أهل سعيد”، وأسمها القديم “حَبَة أهل بِيْبَك” نسبة إلى آل أبي بكر ، وقد حُذفت الهمزة والراء في أبي بكر، كما هو الحال في اللهجة اليافعية، إذ يُنطقون أبوبكر (بُوبك) ، وبالمثل مدينة بني بكر تُنطق (بنَيْبَك). وارتباطاً بتلك التسمية ذهب صديقي الباحث د.فضل الجثام في قراءته‬ التصويبة للهمداني إلى القول بأن حبة للأبكور من يافع، وليس للأبقور، خاصة وأنها ما زالت تُعرف بهم، أي “حَبَة أهل بيبك” (أبوبكر).
إلى الشرق من جبل حَبَه وبمسافة تبعد قليلاً عن الجبل تقع قرية “حَبَة أهل مديد” التي تنتصب حصونها القديمة على تل جبلي في الطريق إلى مرفد والعر. ولآل مُديد الحَبَهي مأثرة بطولية، تتردد في ذاكرة الناس، حينما تصدروا صفوف المقتحمين في معركة (الخَلَقة)خلال المواجهات مع القوات الزيدية الغازية ليافع في عهد الدولة القاسمية، والتي اشتبك فيها الطرفان بالسلاح الأبيض ومُنيت خلالها قوات الغزاة بشر هزيمة. وإزاء مواقفهم البطولية تلك، طُلب منهم أن يختاروا ما يشاؤن تكريما وتقديراً لبطولتهم، فاختاروا أن تكون لهم “أول برعه” في أعياد يافع التقليدية، أي أن يتصدروا أفراح يافع كما تصدروا لمعركتها ضد الغزاة، ومن هنا جاء المثل اليافعي (أولْ بَرْعَهْ لصَاحِبْ حَبَهْ) والمقصود أن الأولوية لصاحب الحق في أي أمر من الأمور.
لطالما هممت بزيارة قمة هذا الجبل المنيف منذ سنوات، فلم تسنح لي الفرصة، أو بالأصح لم اتحمس لصعوده وحيداً، خاصة وأنه لا توجد طريق سيارات تؤدي إلى قمته، كما هو الحال في جبل “ثَمَر” أو جبل “العُر” ولا بد من ارتقائه مشياً على الأقدام، وها قد جاءت الفرصة أخيراً بتحفيز من زميلنا الأستاذ د.أحمد صالح الوطحي الذي لفت انتباهنا إلى أهمية تصوير وتوثيق ما تبقى من آثار معمارية لقلاع وحصون ومتارس وأسوار وخزانات مياه سبق له أن رآها خلال صعوده إلى قمة جبل حَبَه عام 1969م حينما كان ضمن القيادات الشابة للجبهة القومية التي ثبَّتت السلطة المحلية في يافع بعد الاستقلال الوطني. ومن جانبنا رأينا أن هذه المهمة ضمن اهتمامات مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر في رصد المواقع التاريخية والأثرية المهمة وتشجيع المجتمعات المحلية والهيئات الحكومية المختصة والباحثين على الاهتمام بها والتنقيب فيها.
وهكذا قمنا بعد ظهر يوم السبت الماضي الموافق 4 مارس 2017م، بزيارة ميدانية ضمت كل من: د.محمود علي السالمي مدير المركز و أ.د.علي صالح الخلاقي مدير دائرة الإعلام والعلاقات العامة بالمركز، و د.فضل الحياني رئيس قسم التاريخ بكلية التربية يافع، وكان قائد الرحلة د. الوطحي الذي أقلنا بسيارته، وانضم إلينا الزميل حسين صالح السعيدي المنتدب في قسم التاريخ، وهناك في سفح الجبل كان في انتظارنا ابن حَبَة الخلوق الأخ محمد عبدالقوي الشعبي، فكان نعم الدليل لنا مع ابن أخيه الشباب صالح منصر عبدالقوي.. وفور وصولنا بالسيارة إلى منتصف الجبل عبر الطريق الترابي القديم الذي يمر شمال الجبل، تناولنا الشاي الذي جاء به مضيفونا مع عدد من عُلب المياه لادراكهم بحاجتنا إليها في مثل هذه الرحلة. ثم استجمعنا قوانا وشققنا طريقنا صعوداً مشياً على الأقدام نتتبع بقايا النقيل الذي كان مرصوفاً بالحجارة من أسفل سطح الجبل ملتقيا بنقيل “ذَبوب” قبل أن تُشق طريق السيارات وكانت تمر به قوافل الجمال والحمير والمشاة وأصبح اليوم أثراً بعد عين، باستثناء بعض البقايا التي تدل عليه هنا وهناك. ورغم صعوبة الصعود إلى الجبل إلا أن الرحلة كانت ممتعة، أنستنا تعب الصعود.
ما أن اقتربنا من حافة قمة الجبل حيث تشمخ هناك بقايا سور القلعة الأثرية وكذلك جدار خزان المياه الرئيسي (الماجل) بحجارته الكبيرة حتى تنفسنا الصعداء وأخذنا قسطاً من الراحة على حافته في انتظار وصول بقية رفاق الرحلة. ثم صعدنا لنَطِلّ على بقايا أطلال (الدّرب) كما يُطلق على السور الحجري الحصين والسميك الذي يحيط بالقلعة القديمة ومنشآتها الأخرى. وحين صعدت السور لالتقاط الصور جنَّحت بخيالي إلى تلك العهود التي كانت فيها هذه المنشآت قائمة وهي تعج بالحركة والنشاط ، ولا شك أنها كانت هنا وهناك مبانٍ متعددة بعضها من عدة أدوار كانت مخصصة لمساكن القادة وإلى جانبها تتوزع ثكنات الجنود ونُوَب الحراسة، فضلاً عن مبانٍ خاصة تأوي إليها الجمال أو الخيول والحمير، ومخازن للمؤن والأسلحة وغير ذلك .
هناك روايات متعددة حول زمن بناء هذه المنشآت، فالبعض يعتقد أن الطاهريين هم من شيدها في عز قوتهم في القرن العاشر الهجري، فيما يرجع آخرون بنائها إلى الأتراك خلال سيطرتهم على يافع في زمن الوزير حسن باشا والقائد التركي المحنك سنان باشا الذي وصل إلى يافع على رأس جيش عرمرم واستولى عليها عام 997هـ وكان طريقه عبر رداع, ويقال: إن جيش ذلك القائد كالجراد, والجِمَال التي تحمل له المؤن ستون ألف جمل، ولهذا قام في إصلاح وترميم الطُرق الجبلية (النّقوَل- جمع نَقيل) حتى يتيسّر السير الآمن للقوافل في تلك الطرق الجبلية الوعرة.
ومن غير المستبعد أن تكون تلك الأطلال المتبقية في قمة جبل حَبَة أقدم عهداً، فقد تعود إلى زمن الحضارة الحميرية. ولربما استفاد منها الطاهريون فيما بعد، ثم جاء الأتراك من بعدهم وأجروا بعض الترميمات عليها، لكن المقام لم يُطل بالأتراك في يافع، إذ واجهوا مقاومة شديدة كلفتهم كثيرا مما حدى بهم إلى مغادرتها سنة 1016هـ. ويُعزى إلى الأتراك بعد هزائمهم ورحيلهم من يافع مقولة (ما من يافع منافع) المتداولة إلى اليوم.
وبالمثل فقد كانت قمة جبل “حَبَة” و “العر” مكاناً لاحتشاد القبائل اليافعية أثناء مواجهاتها لغزوات جيوش الدولة القاسمية، ويذكر المؤرخ الزيدي أبوطالب (توفي 1170هـ) في ذكره لأحداث سنة 1016هـ أن أن أهل يافع خرجوا ألى جبالهم متحصنين ومجتمعين وشرعوا في عمارة المتارس ولم تزل يافع إلى تكاثر حتى ملئ بهم جبل (حَبَة) وجبل (العر) واجتمعوا نحو ثلاثين ألفاً فيما قيل وبلدانهم بالقرب منهم تجلب إليهم من كل جبل. وبعد سيطرة جنود الدولة القاسمية الزيدية على يافع استخدموها محطة عسكرية لهم، بحكم موقعها المطل على محيط واسع من التجمعات السكانية وقربها من جبل العُر الشهير الذي يعد بوابة يافع الشمالية، ويروي الأهالي أن خزان المياة الرئيسي المطل على قرى حَبَة الشمالية قد تعرض للتخريب بإحداث فجوة في جزء من جدار السد (الماجل) من قبل المواطنين خلال مقاومتهم لجنود الزيدية.
للأسف الشديد لم يتبقَ، في الوقت الراهن، من منشآت (الدّرب) القديمة سوى أكوام متراكمة أو متناثرة من الحجارة هنا وهناك، وكذلك بقي خزان المياه (الماجل) بشكله الدائري المملَّط بالنورة “القضاض” بكامله وما زال في حالة جيدة لكنه بسبب التشقات التي لحقت بالنورة فَقَدَ وظيفته في حفظ المياه، وكذلك بقيت أجزاء كثيرة من السور المحيط بالموقع، خاصة بقايا الجدران الغليظة الأكثر تماسكا في الجهة الشمالية الغربية منه، وكذا الجزء الأرضي من نوبة الحراسة الملاصقة له والتي تطل على خزان المياه الرئيسي(الماجل) المملَّط هو الآخر بالنُّورة والمتشقق من الداخل.
يروي د. الوطحي أن حالة جدران السور وبعض البنايات كانت في وضع أفضل حينما رآها عام 1969م وأن النوبة كانت مرتفعة حوالي دور أو دورين وكذلك كان جدار السور أرفع من مستواه الحالي، ولا شك أن الموقع تعرض بكامله لعبث العابثين الذين ربما كانوا ينسَلُّون إليه باحثين عن كنوز أو آثار اعتقدوا بوجودها، ولربما نهب الناس أخشاب هذه المنشآت في مراحل زمنية مختلفة للاستفادة منها، فيما تركوا الحجارة لوفرتها في المناطق المحيطة. وما زالت بعض أجزاء سور الدرب قائمة ومتماسكة وكذالك جدار الماجل الخارجي بحجارته الكبيرة التي تربط بينها النورة، لكنها تبقى عرضة للانهيار تدريجيا جراء الإهمال، أما المنشآت الدفاعية الأخرى فقد تحولت إلى أطلال، وقد رصدنا بعدستنا ما تبقى من شواهد، بما في ذلك في بقية الهضبة المستوية نوعاً ما رأس الجبل والممتدة على طول سطح الجبل، حيث توجد في كثير من أجزائه آثار بنايات ومتارس ونحو ذلك، وهو ما تدل عليه أكوام الحجارة المتجمعة أو المتناثرة في أكثر من مكان، وبعضها تشير إلى أساسات ومداميك لمنشآت مدنية أو دفاعية تتألف من حجارة كبيرة الحجم.
لم نعثر حالياً على آثار لنقوش في أطلال الموقع، وإن كانت قد وُجدت في فترات سابقة فأنها ربما تكون قد تعرضت للنهب أو السرقة من قبل تجار الآثار، أسوة بما تعرضت له مواقع أخرى، على سبيل المثال في منطقة الحد المجاورة، خاصة خلال العقود القليلة المنصرمة. أما ما عثرنا عليه من نقوش فهي حديثة لأسماء أشخاص زاروا قمة الجبل خلال العقود القليلة الماضية فحفروا أسماءهم في بطن الصخور أو في حجارة جدران السور أو على الحجارة ومن ذلك نقشاً على حجر باسم (القومية) ما أن ريناه حتى توقف د.الوطحي أمامه متأملاً في ذكريات مر ت عليه قبل قرابة أربعة عقود.
أنتهت رحلتنا الشيقة بتفرق زملاء الرحلة، حيث انفصل عنا الحياني والسعيدي دون إكمال الرحلة مشياً إلى الطرف الآخر من الجبل فعادا أدراجهما في المنتصف نزولا إلى نقطة الانتظار، وحَرَما أنفسهما من الإطلالة على بنوراما جميلة لمنظر جبل العُر وقرى مرفد التي يحتضنها وكذا قرية الشرف وقرى الحد التي تبدو في الآفاق بوضوح.
في الختام وجب الإشارة إلى أهمية الحفاظ على مثل هذه الآثار وحمايتها من العبث خاصة مع وجود عشرات المواقع أو الخِرَب الأثرية في يافع التي تدل على أن الحياة والحضارة موغلة فيها، ولا بد من تكوين وعي عام بقيمتها التاريخية، فهذه شواهدنا الحضارية التي تدل علينا.