fbpx
عبدالله حسن الناخبي: مناضل تقدم الصفوف في أصعب المواقف

 

علي صالح الخلاقي:
الموت حق ولا مفر ولا مهرب منه، ولكننا نشعر بقساوته حين يختطف منا صديقاً عزيزاً وهو في عنفوان عطاءه وله شأن يذكر وبصمات طيبة في تاريخ وطنه ومسيرة شعبه وبين أهله وناسه، وذلك هو حالنا مع فقيدنا طيب الذكر الصديق المناضل عبدالله حسن الناخبي، الذي كان يحظى بمكانة رفيعة في قلوب كل من عرفه أو عايشه أو عمل معه، وغادرنا قبل عام بالوفاء والتمام وبالتحديد 29 فبراير 2016م في أحد مستشفيات الهند، خلال رحلة للعلاج إلى الهند جراء مرض ألَمّ به، وما كنا نظن أنها رحلة لا عودة فيها، حيث لقي ربه هناك بعيداً عن وطنه الذي أحبه وناضل وكافح وأفنى سنوات عمره من أجل عزته ورفعته، وصدق الله القائل في كتابه العزيز{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ}.. ولا نجد في ذكراه سوى أن ندعو له بالرحمة والمغفرة وأن يسكنه فسيح جناته.
تعود علاقتي الشخصية بالصديق الفقيد المناضل عبدالله حسن الناخبي إلى مطلع السبعينات من القرن الفارط، حيث قُدِّر لنا أن نكون زملاء في أول مدرسة إعدادية تُفتتح حينها في يافع الجبل، والتي احتضنت في أول دفعة لها طلاباً من مختلف مناطق يافع، باستثناء يافع الساحل (جعار – الحصن – باتيس) التي تواجدت فيها المدارس الابتدائية والإعدادية من قبل.
كانت تلك الدفعة متميزة، بكل معاني الكلمة، لأن التعليم حينها كان يحظى باهتمام الطالب والمعلم والأسرة ورعاية الدولة وتشجيعها، وكنا نسكن في قسم داخلي، ورغم الشدة المتبعة في نظام السكن حينها الذي كان أقرب إلى الحياة العسكرية الصارمة، إلا أننا تعلمنا حب النظام والدقة في أوقات الأكل والاستراحة والمذاكرة والنوم، وأذكر إن انطفاء الأنوار والخلود للنوم كان محدداً في العاشرة مساء، وحتى المذاكرة أو الأحاديث الجانبية كانت تتم بصوت هادئ، حتى لا يسبب أحدٌ إزعاجا للآخرين، لأن السكن كان عبارة عن براقات مستطيلة، وتعلمنا أيضاً كيف نعتمد على أنفسنا في كثير من الأمور، بما في ذلك تنظيف ملابسنا ومسكننا، وكان ممنوعاً علينا كطلاب في القسم الداخلي تناول القات أو السجائر، ومن يخالف ذلك يطلب حضوره ولي أمره وقد يتعرض للطرد من السكن. وكانت هناك نشاطات لاصفية متعددة رياضية وفنية وأدبية. ولا أبالغ أن قلت أن مستوى خريجي الاعدادية حينها وثقافتهم ومعارفهم العامة يفوق مستوى كثير من الجامعيين الآن، وهو ما أنعكس في تكوين شخصية فقيدنا عبدالله حسن الثقافية والتربوية والسياسية والعسكرية.
ينتمي عبدالله حسن إلى أسرة فلاحية بسيطة، وحتَّمت عليه ظروفه الأسرية أن يلتحق بسلك التدريس مدرسا في مسقط رأسه، قبل أن يكمل الثانوية ليسهم في إعالة أسرته، وقد اختير بعد تعيينه مديراً لمدرسة الشهيد موسى عوض كبرى مدارس مديرية سَبَّاح عام 1977م، ثم حصل لاحقاً على تأهيله في معهد العلوم السياسية والاجتماعية في عدن، ولما تمتع به من حيوية وديناميكية في نشاطه التربوي والسياسي، فقد عُيَّن عام 1980م نائباً لعميد ثانوية رصد للشؤون السياسية، ثم مديراً للشؤون السياسية والتربوية في مديرية رصد.
وفي عام 19900م وبعد تحقيق الوحدة, انتقل للعمل في وزارة الداخلية بصنعاء، فقد كان أحد ابناء جيلنا المتشبع بقيم الوحدة والعروبة، إذ كان شعار (تحقيق الوحدة اليمنية) يتردد على ألستنا في طوابير المدارس الصباحية وتُستَهل به حتى الأوراق الرسمية للدولة، وترسخ هذا الشعار في أذهاننا منذ طفولتنا حتى كدنا نعتقد أن تحقيق الوحدة هو الخلاص من كل مشاكل ومعاناة مجتمعنا والانتقال إلى حالة أفضل وأكثر تطوراً .
لكن اتضح أن الطرف الآخر كان يعتبر الوحدة سُلَّماً لتحقيق مصالحه الشخصية ولهذا كانت نهاية الوحدة مأساوية بعد أن قتلتها جنازير الدبابات ودانات المدافع الثقيلة وراجمات قذائف الكاتيوشا عام 1990م.
وقف عبدالله حسن الناخبي ضد حرب احتلال الجنوب عام 944م، ثم برز اسمه كواحد من قادة الحراك الجنوبي الذين تقدموا الصفوف منذ وقت مبكر عام 2007م، وتعرض للمضايقات والطرد من عمله وحرمانه من راتبه، مثله مثل كثيرين غيره ممن حملوا مشعل الثورة الجنوبية وتحدوا طغيان قوات الاحتلال.


وضمن المواقف الشجاعة التي تُسجل للفقيد أنه كان ضمن نخبة من الأبطال الذين تقدموا الصفوف غير هيَّاب للصعاب والمشاكل المترتبة على مواقفه الواضحة مع قضية شعبنا الجنوبي وضد طغيان نظام المخلوع صالح.
ولعل ابرز مواقفه الشهير استضافته للمناضل حسن أحمد باعوم مع عدد من مرافقيه في اكتوبر 2008م في منزله، في مسقط رأسه قرية (حِزِر) الواقعة في ضفاف وادي الخضرة الجمال (العرقة-ذي ناخب) في يافع؛ وكان باعوم حينها مطارداً من قبل السلطة فاتجه للاحتماء إلى يافع، وقد حاولت قوات السلطة الوصول إليه، لكن المناضل عبدالله حسن وأهله من حوله اعترضوا على تسليم ضيفهم, وتوافد الكثير من أبناء يافع للوقوف معهم في التصدي لقوات الأمن، التي لم تجد بداً من الانسحاب.
ومنذ ذلك الحين قطع صلته بنظام صنعاء وكرَّس كل وقته وجهده للحراك السلمي الجنوبي، وكان أحد المؤسسين للمجلس الوطني الأعلى لتحرير واستعادة دولة الجنوب, وعند اختار حسن باعوم رئيساً للمجلس تم أيضاً اختيار عبد الله حسن الناخبي أميناً عاماً للمجلس.
وخلال تبوأه لهذه المسئولية النضالية التي لا امتيازات شخصية فيها، بل تعب وتضحية قد تعرض صاحبها للملاحقة من قِبَل النظام الذي جاهر بالنضال ضده، قام الفقيد بدوره في ترتيب شئون المجلس مُتنقلاً مع زملائه المناضلين في عموم المحافظات الجنوبية.
لم يخُن قضية شعبنا الجنوبي أو يتخلى عنها، لكنه رأى في الثورة التي قامت ضد الرئيس المخلوع في صنعاء بارقة أمل لإعادة صياغة العلاقة مع الشمال وفق أسس ورؤى جديدة منها الصيغة الفيدرالية المطروحة اليوم والتي باركها مؤتمر القاهرة حينها، وقد رأى البعض أن موقفه ذلك وعودته إلى صنعاء وتحدثه باسم الحراك الجنوبي خيانة لقضية شعبنا في التحرر والاستقلال، ولاقى بسبب ذلك الكثير من المشاكل والنكران.
لا شك أن موقفنا منه، وان اختلفنا معه في حياته بسبب اختلاف الرأي في بعض المواقف، يحتاج إلى إعادة تقييم وانصاف له بعد رحيله، فقد ناله الكثير من الشتم والتجريح والظلم، خاصةً من قبل بعض المتشنجين الذين لا يقبلون رأياً مغايراً لمواقفهم، وتناسى كثيرون مواقفه السابقة التي لا ينكرها إلا جاحد، واتضح إننا للأسف الشديد لا نجيد لغة الاختلاف واحترام الرأي والرأي الآخر, وأعتقد إننا لو أحسنا فن التعامل مع اختلافاتنا في الرأي على قاعدة (اختلاف الرَّأي لا يفسد للودّ قضيّة) لما أثر ذلك على حُسن المعاملة مع من نختلف معهم، ولربما غيَّر المناضل عبدالله حسن من مواقفه الأخيرة، خاصة بعد أن اتضحت له الكثير من الأمور بعد الالتفاف على ثورة التغيير من قبل رموز النظام ذاته، وهو ما حدا به إلى الركون إلى الصمت ولزم بيته في مسقط رأسه، وأذكر إننا كنا قد ذهبنا إلى وادي العرقة في أمسية رمضانية في يوليو 2013م، برفقة المناضل علي هيثم الغريب وكان قائد الرحلة المناضل عبدالله حسين الناخبي(أبو ماجد) ومعنا آخرين، ضمن نشاطات الحراك الجنوبي حينها، ووصلنا قبيل الافطار في طريقنا من أمسية أقيمت في الفيض – الحد، وجرت الأمسية في ساحة مكشوفة أمام المدرسة بعد صلاة التراويح واستمرت حتى منتصف الليل، وسألنا حينها عن المناضل عبدالله حسن فعلمنا أنه في بيته، ولولا ضيق الوقت لكنا قمنا بزيارته، إذ كان علينا أن نعود مباشرة في تلك الليلة، وخضنا بصعوبة في الطريق الترابية في وادي ذي ناخب المتعرج نظراً لتعرضه لمخاطر السيول، ولم نصل الحبيلين إلا مع قرب السحور، فتناولنا سحوراً شهيا في بيت زميل رحلتنا الشاعر أبوهند اليافعي.
ويكفي الفقيد المناضل عبدالله حسن الناخبي أنه كان ضمن نخبة من رموز الحراك الجنوبي ممن تقدموا الصفوف في وقت تهيَّب وخاف فيه كثيرون المجاهرة بمواقفهم الرافضة لنظام المخلوع، نذكر منهم من رفاق دربه حسن باعوم وعلى هيثم الغريب ومحمد صالح طماح وعلي محمد السعدي وآخرين. وقد عُرف فقيدنا بنشاطه وحيوته المتدفقة، وبدماثة خلقة وخفة روحه وطيب سريرته واعتداده بنفسه، وتشبثه بمواقفة دون مواربة أو زيف أو نفاق وهي صفات لازمته طوال حياته، وتحمل بسببها الكثير من المعاناة.
وقد كان فقيدنا شاعراً مجيداً، تفتحت موهبته منذ وقت مبكر، وأتذكر أنه كان يسمعنا أثناء دراستنا في المرحلة الإعدادية أبياتاً من أشعاره التي يرتجلها في أكثر من مناسبة، بل وسمعته أكثر من مرة ينظم أبياتاً ساخرة ينتقد فيها بعض التصرفات التي لا تعجبه. وهذا الجانب، أقصد الشاعر في شخصيته، ربما لا يعرفه عنه كثيرون، وقد نشرت له مساجلتين شعريتين مع الشاعر المرحوم محمد أحمد الدهبوش العَصَري الناخبي في ديوان الأخير(السّير المتعرج) واتصلت به حينها وعرفت منه أن لديه قصائد وأشعار ومساجلات كثيرة، أرجو أن يكون قد دونها واحتفظ بها لكي يسهل نشرها، كما سمعت له بعض قصائد “البدع والجواب” مع بعض الشعراء مغنّاة بصوت الفنان الرائع علي صالح اليافعي.
ومن خلال النظر إلى قصائده نجد فيها أنه صاحب موقف في نشاطاته وخطاباته وأشعاره. ولاشك أن أبناءه يحتفظون بجميع قصائده وأشعاره، وأتمنى عليهم نشرها سواء ضمن الكتاب المزمع نشره عن سيرته وحياته ونضاله، أو في ديوان خاص به، فذلك أقل الوفاء للفقيد الذي رحل عنا وتظل ذكراه عطرة بيننا ويبقى اسمه محفوراً وناصعاً في سجل تاريخنا المعاصر..