fbpx
الموت يختار فرائسه بعناية

 بقلم/د. عيدروس نصر ناصر
(إلى روح الفقيد الأستاذ أحمد قاسم دماج)

للموت قانونه الصارم الذي لا يميز فيه بين صغير وكبير ولا بين غني وفقير ولا بين نبيل وحقير، وكثيراً ما ينزل علينا دونما سابق إنذار أو علم مسبق، لكن مأساوية لحظات الموت هي التي تختلف، فشتان بين موت شخصية ملأت التاريخ عطاءً وفكراً ونضالاً ومعانٍ إخلاقية ووطنية نبيلة وبين شخصية هامشية لا قيمة لحياتها وموتها أو شريرة لا تكاد تذكر إلا كمثال لصناعة الأذى وتنمية الشرور.

* * *

تلقيت اليوم بحزن شديد نبأ وفاة التربوي والمناضل والمبدع والشخصية الوطنية – الرئيس السابق لاتحاد الادباء والكتاب اليمنيين – صديقي الأكبر الأستاذ أحمد قاسم دماج وكان الخبر صادما والحدث مزلزلا.

قبل ان أتعرف عليه كنت اقرأ للأستاذ احمد قاسم دماج وعنه وأشعر بإعجاب كبير لما يتمتع به من روح إبداعية وقدرات شعرية وحكائية وتحليلية ونفس ثوري ووطني مثل الكثيرين من ابناء جيله.

وفي العام 1997م التقينا بالصدفة على هامش مهرجان القمندان في مدينة الحوطة عاصمة محافظة لحج ودارت بيننا نقاشات كانت في معظمها أدبية وشعرية وفنية، لكنها لم تمكننا من اكتشاف مواقف بعضنا من القضايا الساخنة في تلك اللحظة وخصوصاً قضية حرب 1994م وما خلفته من جراح دامية، وقد تواعدنا أن نلتقي في صنعاء على هامش المؤتمر السابع لاتحاد الادباء والكتاب اليمنيين الذي كان موعده قد أزف.

في صنعاء تكررت لقاءتنا واقتربنا من بعضنا أكثر وعقدنا عدة جلسات دردشة (جلسات قات) غير الجلسات الرسمية من أمسيات شعرية ومناقشات قصصية وفعاليات نقدية وجلسات تنظيمية في إطار فعاليات المؤتمر ومهرجان الشعر اليمني.

في إحدى الجلسات وربما أولاها كان الأستاذ المرحوم أحمد قاسم دماج يعلق على مهرجان القمندان موجها الحديث إلي فقد كنت الجنوبي الوحيد بين الحاضرين: يا عيدروس! لماذا لاحظنا مسحة من الحزن والفتور طغت على فعاليات مهرجان القمندان والمشاركين فيه؟

كنا ما نزال نعيش أجواء حرب 1994م وشخصيا كنت ما أزال أجهل محيطي وأتهيب الخوض في النقاشات التي تترتب عليها مواقف سياسية قد تسبب لصاحبها المساءلة والملاحقة، كما كنت أتوجس خيفة انتشار المخبرين والمتنصتين الذين كانوا ينتشرون في كل الفعاليات والملتقيات، لذلك أجبت إجابة باهتة : بأن ظروف الناس في لحج والحياة المعيشية الصعبة وربما حرارة الصيف كل هذا كان له تأثيره على مزاج الناس في فعاليات المهرجان! وكنت أعرف أن إجابتي غير مقنعة إذ كنت انا نفسي غير مقتنع بها.

لكن الاستاذ المرحوم يوسف الشحاري (وكان ما يزال رئيسا للاتحاد حتى ذلك المؤتمر) انبرى من الزاوية الثانية معلقا بصوته الحهوري بما يشبه الاحتجاج.

لا يا عيدروس! الحرارة في لحج موجودة منذ خلقها الله، وغلاء المعيشة ليس سببا كافيا للحزن، ثم من السبب في الغلاء والفقر الذي وصل اليه الجنو بيون؟ يا ولدي السبب هو الشعور بالاغتراب! فعندما يكون مصيرك ومستقبلك ومعيشتك وحياتك وموتك بيد الأغراب لا يمكن أن تكون إلا حزيناً ومكتئباً!

وعلق الأستاذ أحمد قاسم دماج باستحسان موقف الأستاذ الشحاري مؤكداً إنه من غير المعقول ألا يوجد قائد أو مسؤول صغيراً كان أو كبيراً في لحج أو عدن أو أي محافظة جنوبية إلا ممن شاركوا في الحرب على تلك المحافظات ومعظمهم من الوافدين من الشمال؟ أما الاستاذ المرحوم اسماعيل الوريث الذي جدد انتخابه في نفس المؤتمر أميناً عاماً للاتحاد فقد علق بالقول:

– قبل الحرب وقبل 1990م كان أبناء عدن والجنوب يستقبلوننا استقبال الفاتحين وكنا نشعر بالحميمية والمودة تطل من عيونهم تجاهنا حتى لو لم يتحدثوا إلينا، أما اليوم فبمجرد رؤية احدنا يتهامسون وربما يصرخون : هاهم الدحابشة قد اقبلوا!

وقد شجعني هذا على الكشف عن قناعاتي الحقيقية في اللقاءات اللاحقة إذ شعرت أن لدي من يشاطرني إحساسي ورؤيتي للوضع السائد في الجنوب.
من يومها تكررت لقاءاتنا من خلال فعاليات اتحاد الادباء والكتاب واللقاءات الشخصية و في مجالس القات (رغم إنني كنت قد قاطعت القات إلا إنني كنت أحضر الكثير من المقايل في صنعا التي يتحول معظمها إلى منتديات فكرية وسياسية).

* * *

الأستاذ المرحوم أحمد قاسم دماج من مواليد العام 1939م في محافظة إب وقد انخرط في العمل الوطني والسياسي والفكري منذ بدايات الشباب وهو أحد المساهمين في الدفاع عن ثورة سبتمبر وعن النظام الجمهوري خلال فترة الستينات وقد تدرج في العديد من المهام الحكومية والوطنية منها سكرتير عام مجلس الوزراء في حكومتي السلال والعمري رحمهما الله.
وينتمي الأستاذ أحمد الى جيل الطليعة الوطنية الاولى ممن أسسوا حركة اليسار في اليمن وكان عضوا فاعلا في الحزب الديمقراطي الذي اشترك في تأسيسه وتزعمه المناضلون عبد القادر سعيد وسلطان احمد عمر وعبد الحافظ قائد وكانوا مجايلين لكل من الشهيد فيصل عبد اللطيف والرئيس قحطان الشعبي وغيرهما ممن وضعوا اللبنات الاولى لقيام حركة القوميين العرب وما شهدته من تطورات لاحقة حتى قيام الحزب الاشتراكي اليمني.
لكن الفقيد دماج تميز إلى جانب تفكيره السياسي المميز وقناعاته الفكرية الراقية ورؤيته للحياةالسياسية وإيمانه بالمستقبل الأجمل ونقاء روحه ونظافة يده وعطاءاته الوطنية في الصعيد السياسي تميز بطاقاته الإبداعية الجميلة في مجال كتابة القصيدة الحديثة وإتقان صناعة الصورة الشعرية واستدعاء الاسطورة وإسقاطها على مشاهد الواقع اليومي بشعرية جميلة وعاطفة جياشة وقدرة فائقة على اختيار الصورة الجمالية وصناعة الحبكة الدرامية الشعرية نادرة المثال كما إن كتاباته النقدية تمثل حالة متميزة في تفكيك الابعاد الجمالية للنص الشعري والادبي عموما.

يقول الفقيد في إحدى قصائده والمعنونة “أي كائن هو آخر القتلة؟”:

الليل يهبط كل ثانية,

زمانٌ من رحيل في العذاب.

الصمت سجن ناهض الأسوار

ملتفُ على وجه المدينه.

والرعب يقتحم الشوارع وهي تبكي بالغبار.

وعلى النفوس,

على انهيار الكون في الغسق الذي لا ينتمي

وجْلاء تضطرب النفوس

هذا ارتدادٌ مفزعٌ لليل يا قلب المغني

لذْ بالشجا!

فشناعة الطوفان تجتاح الجميع

والحزن يهبط أخرسا

ردد تراتيلَ انغماسِك في الأسى.

وزفير روح مدينة تهوي إلى الأعماق مثخنةً,

وناس في القرارة يرزحون

الجوع جلاد يعلِّقهم على سقف السكينة والسواد

 خذ من نياط القلب أوتادا

مدينتنا معبأة بذعر لا يحد

والخلق مقسوم إلى قسمين:

جلادون يلتهمون في شرهٍ ثمار الجنتين

ومكبلون بفاقة تفضي لمسغبة

نعاج في فلاة من ذئاب.

غَنِّ لعلك تبعث الموتى

لعل الأفق يشرب فيض هذا الليل

أو ينخطُّ نبع من شفق

أنا مثخن يا صاحبي أنا.في انهيار الكون خيطٌ من أرق

وأنا وأنت وهُمْ على الجنبات أسمال مزق.

أقسى من الليل الذي ولَّى

هو الليل الذي يأتي

وأرحم من تضورنا الغرق

الأرض سيّجها الأنين

ونحن نسغ في الشفق

هلا أحلت وجيب هذا القلب ألحانا

وحشرجة النفوس قصائدا لا تستقر وهل??

هلا ابتكرت لنا ابتداً

لا يغال ولا يفاجئه الغسق??

* * *

في العام 2008م وفي مقابلة مع إحدى الصحف المحلية قال الفقيد أحمد قاسم دماج مقولة شهيرة صارت فيما بعد تتردد على ألسنة العشرات من الكتاب والمثقفين حينما أشار إلى ” إن عدم معالجة أوضاع البلاد وحل الأسباب التي توسع الهوة بين طبقات المجتمع وعدم الالتفات إلى سخط الناس من سياسات النظام سيدفع البلاد إلى التشظي والتفكك والانهيار” وكانت مفردة التشظي نادرة التداول حينها لكنها صارت فيما بعد أحد أكثر مفردات القاموس السياسي اليمني تداولا، بيد أن الكثير من كتاب السلطة شحذوا اقلامهم للتهجم على هذا المفكر العظيم وكان أقلهم من اتهمه بالتشاؤم، لكن بعضهم اتهمه بخدمة مخططات الأعداء (كما هي العادة مع إعلام النفاق والتسول في كل زمان ومكان).

وقد تحولت هذه المفردة إلى حالة يومية تتداولها كل الاوساط الصحفية والإعلامية بل بدأت تشق طريقها لتغدو حقيقة لم ينكرها إلا المغرورون ومنافقو النظام الذين ما يزالون حتى اليوم يعتبرون كل الحرائق والجرائم والانهيارات التي تشهدها البلد ليست سوى منجزات عظيمة “للزعيم وشلته” أما الاستاذ أحمد فقد كان يبتسم ساخراً من كل شتائم الشتامين وتهديدات المهددين ووعيد المتوعدين.

رحم الله الفقيد المبدع المناضل الأستاذ احمد قاسم دماج وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه ورفاقه الصبر والسلوان.

وبهذا الحدث الجلل أتوجه بالتعازي الصادقة إلى الزميل الوزير مروان احمد قاسم دماج وإخوانه وكل أفراد أسرة الفقيد وإلى الدكتور عبد الكريم قاسم دماج والدكتور همدان زيد مطيع دماج وإلى جميع اولاد الفقيد واحفاده وكافة آل دماج وإلى الأستاذ يحيى منصور أبو إصبع وإلى جميع أفراد الأسرة اﻷدبية وكل محبي الفقيد وأصدقائه وتلاميذه سأئلا المولى العلي القدير أن يمن عليهم جميعا بالصبر والسلوان.

” وإنا لله وإنا إليه راجعون”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   من صفحة الكاتب على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك.