fbpx
نزوح البنك المركزي.. مسارات في موسم الانتقال

 

سُمِّيَت عدن “عاصمة اقتصادية”.. وهو “اللقب”، الذي اخترِعَ عشية ٢٢ مايو، وظلت سلطة صنعاء متمسكة في خطاباتها الرسمية بهذه الصفة المجردة من المعنى.. أعطيت لعدن من باب التعويض المعنوي والرأفة السياسية بمدينة كانت يوماً ما حاضرة الجزيرة وواحدة من  أجمل عواصم الشرق. بعد ٩٤م لم تعد عدن تمتلك أعمال ولا أشغال ولا مراكز حكومية أو خاصة، وظلت مجففة من كل شيء، ولا شي يسيل فيها أكثر من الفقر والبطالة والرطوبة، ثم انفجر بركان حرب جديدة في وجهها وأصبحت تحمل صفة “عاصمة مؤقتة” وهو لقب “انتقالي” جديد لدورها الوظيفي الذي يتقاطع مع مساراتها الخاصة.  لهذا الناس مصابون بحالة من الإرتباك الشديد إزاء “اللجوء الإضطراري” للبنك المركزي في عدن.. أيفرحون به أم يتجادلون في أمره؟

عادة تقع المقرات الرئيسة للمصارف المركزية والتجارية في عواصم الاقتصاد والمال، فالبنك الاتحادي الألماني العملاق يقع في مدينة فرانك فورت وليس في العاصمة برلين.. وهذا نموذج سائد في عدد كبير من دول العالم. في يمن الإيمان، الذي مارس الوحدة على طريقته، شكْل مختلف، فالناس يفهمون في أعماقهم بأن عدن مدينة مختطفة وتُعطى لها الأوصاف المليحة فقط لترويضها، كجزء من “طبطبة” المذل المنعم مالك السلطة والقوة. وهو سلوك لا يقتصر على الحاكم لأن ثوار الربيع سيسوؤهم أكثر لو قيل لهم حينئذٍ بأن عدن ستتحول “عن جد” إلى عاصمة اقتصادية حقيقية وستنقل إليها المصارف ومقر الشركات والمؤسسات التجارية وغيرها.. حتى الثوار ومشائخهم كانوا لن يتهاونوا مع عدن ويعتبروا ذلك عمل يضر بمصلحة الشعب اليمني والوحدة ..الخ.. أي أن عدن لولا هذه الظروف “المهببة” لن يُسمح لها بأن تهز جذع النخلة حتى وهي بلا “رطب جنيا”.

عدن أسيرة هوس الإستملاك بإسم الوحدة اليمنية، وحتى بعد التضحيات الجسيمة في حرب ٢٠١٥، ظلت عرضة للخصور الناسفة والإعلام المتوحش، لأنه مطلوب منها أن تبقى طيِّعة، مسلوبة منهوبة ومحكومة، لكي تتجنب الموت والأفعال الشيطانية، وحتى تظل قابعة عند بوابة مولانا الفقيه أو المرشد أو الزعيم.

اليوم تُنقل وظائف البنك المركزي إلى عدن بصفتها الجديدة “عاصمة مؤقتة”، ومع ذلك تتعالى صيحات حكام صنعاء، وآخرين من الطحاطيح، بان هذه “النقلة” تضر بالشعب اليمني، ويقصد بالشعب اليمني من يسكن هناك في بلادهم لا غير، ولديهم حق في ذلك، فما خلف حدود ٢١ مايو ٩٠ ليست سوى أرض مضافة إلى “الجمهورية المملوكة” الرابضة فوق الجبال حيث وكر النسور العاليات. وحتى البعض من المحللين والأقلام يعظ على قماشةٍ  ليكظم غيظه وهو يستولد المفردات ليعلل الظروف القاهرة التي تجعل هذا الأمر مقبولاً تحت شروط محددة وصارمة، فالبنك المركزي لن يكون وحدوياً إلا في صنعاء عدا في فترة النقاهة السياسية والطوارئ.

عدن مطلوب منها أن تكون وحدوية بلا وحدة، وأن تكون عاصمة اقتصادية بلا اقتصاد وأن تصبح مؤقتة بلا زمن، وحرة داخل أسوار الترانزيت الإجباري حتى تنفرج الدنيا وتتسع الآفاق ثم تُنزع عنها أجهزة التنفس الاصطناعي، فهي بحساباتهم الآن طليقة بضمان الوظيفة.

مبدئياً نقل البنك المركزي من صنعاء، في سياقات الحرب، قرار طبيعي لا يستحق هذه الرجّة الإعلامية، وقد تأخر كثيراً حتى أدت الهدنة الاقتصادية وظيفتها كاملةً، وتم تنضيب الخزائن والموجودات، وأصبح البنك بحاجة إلى علاج طبيعي وإلى تعزيز قدراته وتمكينه من أداء وظائفه. وهذا لن يتم بغير دعم خارجي سخي، فقافلة الحكومة خلال رحلات الشتاء والصيف لم تنوء بكلكلها بعد لكي تفكر بجد كيف تتخفف من الأعباء التي لا حدود لها. فهناك استحقاقات الموظفين وموازنات المؤسسات وخطة إنعاش الخدمات وإعادة التعمير وتأهيل عدن من الزاوية الأمنية والاقتصادية بشكل نهائي. ولا أحد يدرك حتى اللحظة إن كانت الحكومة لديها مشاريع فورية لإعادة تحريك دواليب الموارد الاقتصادية المعطلة منذ بداية الحرب أم لا. الأمر بحاجة إلى جهود مختلفة، والبنك المركزي يشكل تحدي كبير لكي يصبح مؤسسة مالية مكتملة الأركان ببنيته المادية والوظيفية والبيانية وهذا ليس بالأمر الهيّن.

لكن ما يهمنا هو القول بأن على عدن أن تدرك بشكل موضوعي ضرورات الراهن وضوابط المعركة وعليها أن تتصرف بصبر وثبات وحيوية كبيرة، فقد شاءت ظروف الحرب وتقاطع المصالح أن تصبح منطلق للجميع.. لكن ومع هذا فإن أحد لم يطلب منها أن تندمج في الدور فقط، وتتخلى عن أحلامها. عدن ومعها الجنوب أمام مواعيد متعددة ومتضاربة وتحتاج إلى أن تجد طريقها بين هذه المسالك الوعرة فهي تعيش موسم انتقال حقيقي وتحتاج إلى استيعاب واقعي وناضج للمسارات المتوقعة وكيف تشق طريقها نحو المستقبل بحكمة وتأني.