fbpx
في ذكراه الخالده: عبدالله باذيب ..وأزمة السكن في رسالة بخط يده تُنشر لأول مرة

د.علي صالح الخلاقي:

يصادف اليوم ١٦ اغسطس ٢٠١٦م مرور أربعين عاما على رحيل الشخصية الوطنية الفذة رائد التنوير في بلادنا ومشعل الفكر الذي لا ينطفئ عبدالله عبدالرزاق باذيب..ووفاءً لذكرى هذا الخالد فينا يسرُّني أن أنشر ولأول نص وصورة رسالة حصلت عليها بالصدفة قبل سنوات من صديق واحتفظ بها في أرشيفي، وقد كتبها باذيب بخط يده حينما كان يعمل محرراً وسكرتيراً لتحرير “النهضة” التي جعل منها أشهر الصحف الأسبوعية التي تصدر حينذاك، وقد وجه هذه الرسالة إلى أستاذه وأخيه عبدالرحمن جرجرة صاحب ورئيس تحرير “النهضة”، وتكشف هذه الرسالة بعض من خفايا وأسرار هذه الشخصية الفذة الذي تميز بثقافة موسوعية عميقة وغزيرة إكتسبها بالقراءة والإطلاع الذاتي، لأنه لم تتاح له فرصة الدراسة في المدارس والجامعات..حيث اضطر إلى ترك السنة النهائية في المرحلة الثانوية لظروف أسرته الصعبة، التي نتعرف على بعض جوانبها من مضمون هذه الرسالة التي كتبها من وحي المعاناة. وعلى الرغم من كل ذلك تمكن عبدالله باذيب أن يكرس وقته وجهده لتطوير ثقافته الذاتية حتى استطاع أن يلفت الأنظار إليه في الوسط الثقافي والاجتماعي وهو ما يزال طالباً .وقد تنوعت قراءاته بين الأدب والتاريخ والفلسفة والسياسة. وكرس شبابه للتعليم الذاتي حتى أصبح ضليعاً بقواعد اللغة العربية وعلوم القرآن ومتفوقا في التحدث والكتابة باللغة الانجليزية واللغة الروسية والترجمة من وإلى هاتين اللغتين.ولنبوغه وتفوقه وثقافته الواسعة أصدر عام 1949 مجلة “المستقبل” الشهرية وهو في السنة الأولى من المدرسة الثانوية، وكان المحرر الرئيس في المجلة، واتسمت بمستوى رفيع في اللغة والمضمون الأمر الذي جعلها تقف في مصاف المجلات الثقافية والأدبية التي كانت تصدر في الوطن العربي في ذلك الوقت. كما شغل اسمه وكتاباته مكانة مرموقة في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في عدن، وكرَّس قلمه وفكره لخدمة تحرر واستقلال وطنه وقضايا شعبه وترك تراثاً خالداً يمثل منهلاً للأجيال..
وهذه الرسالة التي كتبها في شبابه وارسلها للاستاذ عبدالرحمن جرجرة ، حينما كان يعمل محرراً في جريدة (النهضة) وسكرتيراً للتحرير، تكشف جزءاً من سيرة ومعاناة الشاب الطموح باذيب، وتقدم لنا نموذجاً لأسلوبه الأدبي الرفيع حتى في الرسائل الشخصية فهو يتحدث فيها بلغة أدبية راقية عن مشكلته التي هي مشكلة الآف في عدن حينها، وهي أزمة المساكن في عدن، التي أحرمته حتى من مواصلة مطالعاته وقراءاته المختلفة التي هي لذته في الحياة، كما يقول، والتي بدونها لا يستطيع أن يؤدي وظيفته كما يريد، ولا يستطيع احتمال الحياة نفسها!
ولا شك أن هذه الرسالة ستكون محفزاً للاجيال للتغلب على الصعاب التي تعترض حياتهم إقتداءً بصاحبها الذي نبغ وتفوق في مدرسة الحياة والكفاح.
وفيما يلي نص الرسالة:

أستاذي وأخي عبدالرحمن جرجرة ،
أكتب إليك بعد طول تردد وإحجام..فأنني لم أعد أطيق الصمت على مشكلتي التي سأحدثك عنها في السطور التالية والتي آمن الآن أنها ستحدد مستقبلي وتغير خط حياتي.
لقد طويت هذه المشكلة في صدري منذ زمن لأني بطبعي أكره أن أحدث الآخرين عن مشاكلي الخاصة مهما كانت مكانتهم عندي. ولكني أخيراً وجدت أن السكوت على المشكلة معناه أن أقضي دقائق حياتي كلها في قلق وارتباك، وبدلاً من أن استغل جهودي لبناء مستقبل أفضل سيغمرني تيار من الهموم والحيرة. لهذا قررت أن أضع حداً لمشكلتي مها كلفني الأمر ..وفي نفس الوقت قررت أن أفضي لك بما يخالجني.
ومشكلتي باختصار هي مشكلة الآلاف في عدن..مشكلة تمخضت عن أزمة المساكن في عدن.
إن وجودي في المسكن الذي أعيش فيه الآن مع والدي وأهلي أصبح بالنسبة لي جحيماً لا يطاق، فأن هذا المسكن ليس “علبة ساردين” – كما يقال- بل أصبح قبراً كبيراً لمجموعة من الأحياء.وبالرغم من أن المسكن لا يتسع حتى لعائلة واحدة فأن والدي-غفر الله له- قد حشد فيه أكثر من ثلاث عائلات. إنه والد -سامحه الله – لا يفهم حق الابن في التمتع بشيء من الاستقلال داخل المنزل ، وهو يرى السعادة في أن يعيش إلى جانب بناته وأفراد أسرته ولو داخل قفص مغلق.
وهكذا أصبحت الحياة -لشاب مثلي – مع هذه الكتل البشرية وبين زوبعة من صرخات الأطفال أمراً مستحيلا. وصرت- أنا الذي كان البيت سجني المحبب- أخرج من البيت كل صباح لأعود إليه بعد الساعة العاشرة ليلاً لكي أدفن رأسي بين الكتب حتى ساعة ساعة متأخرة من الليل.
وستسألني أين أنفق وقتي طوال اليوم؟
والحق أني وجدت أصدقاء خلصاء أوفياء فتحوا لي أبواب بيوتهم وقاسموني لقمتهم وراحتهم!. ولكني بعد مدة من هذه الحياة – حياة التسكع والتشرد- شعرت بالملل والسأم، بل والاحتقار لنفسي.
ثم استطاع أحد الأصدقاء أن يعثر على مسكن مؤقت لي في الشيخ عثمان..بشرط أن أسكن فيه وحدي ، وأن يكون لصاحب المسكن الحق في المجئ إليه متى شاء ، وفي قضاء أيام من كل شهر فيه على أن أكون أنا في البيت خلال هذه الأيام ..! مع العلم بأن هذا المسكن بلا كهرباء وليس فيه قطعة من الأثاث!
ولم أتردد في قبول هذه الشروط المجحفة وكنت أذهب إلى الشيخ عثمان كل مساء لأعود منها كل صباح..أي أني أعود في الصباح من الشيخ لأتناول فطوري في البيت بعدن وأقضي يومي كله في الخارج ثم أعود إلى الشيخ عثمان في المساء. واحتملت هذه الحياة المضطربة المضنية نحو شهرين…ثم ضقت بمرارتها وتعاستها. فقد كلفتني كثيراً من المال والجهد والأعصاب.
وعدت إلى الحياة الأولى والتي لم أكن متجنياً عندما سميتها في بداية هذا الخطاب حياة التشرد والتسكع..وعاد القلق والآلام تؤرقني وتعصف بي.
وظللت أكافح للحصول على مسكن..ولكن… من أين لشاب فقير مثلي أن يحلم بالحصول على مسكن في هذا الوقت؟
هذه هي المشكلة المحيرة التي تعذب نفسي منذ زمن طويل.. وأخطر من هذا كله فهي قد غيرت أسلوب حياتي وتكاد أن تؤثر على وظيفتي كمحرر في النهضة.
إن وظيفتي الصحفية لا تبدأ وتنتهي في مكتبي بإدارة النهضة وإنما لا بجد لي من مطالعات ودراسات وقراءات خارجية تمدني بالثقافة التي أتزودها من الكتب ومن تجاربي وحدها لأنه لم يقدر لي أن أكتسب العلم في المعاهد والجامعات. ولكن مشكلة السكن تريد أن تحرمني حتى من مواصلة مطالعاتي المختلفة التي هي لذتي في الحياة ، والتي بدونها لا أستطيع أن أؤدي وظيفتي كما أريد، ولا أستطيع احتمال الحياة نفسها!
ومنذ أسبوع- وبعد أن انقلب شعوري إلى يأس ممض قاتل- قررت في نفسي أنه إذا لم أوفق خلال شهر على مسكن مناسب فأنني سأعفي نفسي من وظيفتي كسكرتير لتحرير النهضة وأقصد أي بلد يمكن أن أعيش فيه هادئ البال مضمون الرزق.
وصدقني يا أستاذي ويا أخي أن التخلي عن وظيفتي الصحفية والسفر إلى الخارج هو آخر ما كان يمكن أن أفكر فيه. فأنا أعتقد كل الاعتقاد أنني لن أجد في أي بلد آخر أطرقه ..شخصاً في مثل صفاتك الرائعة العظيمة، ولن أجد راحة الضمير التي أحسها وأنا أعمل هنا.
ولكن مشكلتي قد أشعرتني أن أي سبيل للخلاص منها هو أفضل السُّبل..! وهو المنفذ الوحيد للهروب من المشكلة!
وقد كنت أخشى أن تلومني على ما بدا لي من تفكير ولكني أعتقد إنك بعد أن تقرأ خطابي وتتحسس مشكلتي ستعذرني وتغفر لي ما أفكر فيه !
أخوك المخلص
عبدالله عبدالرزاق باذيب