fbpx
في شروط التقدم التاريخي ودور الإنسان

لم تنشأ فلسفة التقدم في الفراغ، بل نشأت في السياق التاريخي الحي لحركة المجتمع الغربي وتطوره، على الصعد الحضارية والثقافية والمدنية كافة، وبهذا المعنى نفهم قول صاحب كتاب «فكرة التقدم» «أنه ما كان لنظرية التقدم الإنساني أن تتوطد بالحجج المجردة، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل الذي يقدمه التاريخ نفسه مما كان يجري في العملية التاريخية في الحاضر الأوروبي من متغيرات وأحداث تقدمية وبما كان يبشر بها المستقبل هناك من آفاق أبعد غوراً أو أكثر تقدماً، وكانت قوى البرجوازية الصاعدة، ترى في التقدم مسيرتها وترسم عليه مستقبلها، إذ أخذت فكرة التقدم تنتشر وتشيع في نسيج الثقافة الأوروبية عقيدة عامة وفلسفة شاملة في ذلك العصر، وهذا معناه «إن نظرية التقدم لم تكن مجرد آراء يرددها مفكرون وإنما كانت اقتناعاً عاما لدى أهل ذلك العصر» وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من تأكيد قيمة الإنسان وقدرته على صناعة التاريخ، فإنها في بادئ الأمر قد اكتسبت بعدين أساسيين:
البعد الأول يتمثل في نقد كل ما يحول دون انطلاقة الإنسان ويكبل قواه، وهذا ما شهده القرن السابع عشر، الذي يعد قرن تحطيم الأوثان، إذ كان ملتون في ملحمة «الفردوس المفقود» يهاجم بلا هوادة المؤسسات التقليدية، ويرى «أن أعظم عبء في العالم هو الخرافة، ليست المتعلقة بالطقوس الكنسية وحدها، بل بالآثام المتخلية وبفزاعات الإثم في البيت أيضاً»وفي كتابه «الأوياثان» 1651 سار هوبز بهذه النزعة النقدية ضد الخرافات والأوثان إلى نهايتها المنطقية فالوثنية كما يقول هوبز عبارة عن عبادة الوثنيين لأفكارهم ذاتها، ولم تكن تلك العبادة ممكنة لولا أن الوثنيين الغارقين في ضلال الجهل لم يدركوا أن أفكارهم ليست مكتفية بذاتها، بل سببتها الأشياء الخارجية وتوسطتها ملكة التمثيل».

 

لقد كانت الثورة النقدية الحاسمة ضد الخرافات والأفكار المطلقة قد اكتملت عند جون لوك وهيوم، وانتقلت إلى فرنسا اذ تلقفها الفلاسفة الماديون أمثال كوندياك وهلفسيوس ودولباخ، الذين أرجعوا كل أفكار الناس إلى الخبرة الحسية المادية، وفي كتابه «رسالة في الإحساسات عام 1754» يذهب كوندياك إلى أن أفكارنا تنتجها دائماً قوى مادية لا وجود لـ عقل أو روح مستقل عن الحواس والخبرة الحسية.

 

إن إعادة المكانة للإنسان الكائن الحاس وتأكيد أهمية العالم الحسي ونقد أفكار العرق المورثة وتحطيم الخرافات، كان له بالغ الأثر في صعيد تبلور فكرة التقدم التي وجدت أول صياغة لها على يد المفكر الفرنسي الديكارتي (فونتيل) في كراسه «محاورات الأموت عام 1683» الذي أكد فيه قدرة الإنسان الخلاقة على الحلم والتقدم والكمال، «فلا حدود لتقدم المعرفة الإنسانية والإنسان لن يشيخ بل يتجاوز نفسه باستمرار وفي كتابيه «استطراد حول القدماء والمحدثين وحول تعدد العوالم 1686 ذهب فونتيل إلى أن الإعجاب المفرط بالقدماء هو أحد العوائق الرئيسة للتقدم الإنساني الذي يصعب إيقافه أبداً»وكان المنور الفرنسي فولتير (1778-1694م) بين أشد المثابرين في هذا المشروع، وكان شعاره (اسحقوا الأباطيل) صيحة الحرب ضد المؤسسة التقليدية. ويعد فولتير أول من استخدم كلمة «فلسفة التاريخ» بالمعنى الحديث للكلمة، من حيث هي فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية، تدرس التاريخ دراسة عقلية ناقدة، ترفض الخرافات والأوهام والأساطير والمبالغات.

 

وتعود أهمية فولتير هنا لما كان يمثله في عصر التنوير من قيمة نقدية مهمة، ففي شخصيته وأدبه الجاد والساخر وفي منهجه النقدي العنيف، وأسلوبه اللاذع وقوة أفكاره كان خير من عبر بعمق عن مزاج عصر التنوير واتجاهاته التقدمية (وكان شديد التفاؤل في قدرة الإنسان وعقله في التقدم، إذ يقول: «يمكننا أن نعتقد أن العقل والصناعة سوف يتقدمان دائماً أكثر فأكثر وأن الفنون المفيدة ستتحسن، وأن المفاسد التي حلت بالإنسان سوف تختفي بالتدرج (ويرى فولتير أن الإنسان يتقدم من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية بفضل ما يمتلكه من عقل طبيعي وأن الإنسان خير بطبعه هناك أمل في ارتقائه وبلوغه حد الكمال في حالة المدنية المنظمة تنظيماً عقلياً وكان من أشد المنتقدين للتعصب والانغلاق العقائدي أما الفيلسوف الآخر الذي أجاد التعبير عن عقيدة التقدم الحديثة فهو كوندورسيه (1794-1743م) الذي عاش عهد الثورة الفرنسية عام 1789م هذه الثورة التي نادى لسان الكون في العالم من خلالها، لابـ «الخمول والانقباض» بل بالتحرر والتقدم والكمال، إذ ينزوي هذا الفيلسوف في فندق صغير خارج باريس هرباً من بطش الطاغية روبسبير، ليكتب «معالم صورة تاريخية لمظاهر التقدم في الفكر البشري» مشيراً إلى أنه «ليس هناك حدود مرسومة لتقدم الملكات الإنسانية لأنه لا حد على الإطلاق لقبول الإنسان للكمال..

وأن مسيرة الإنسان نحو الكمال لن تعرف حداً ولا نهاية.. وسيأتي زمن لن تشرق فيه الشمس إلا على الأمم الحرة وحدها، الأمم التي لا تعترف بسيد آخر غير عقلها، ولن يجد الطغاة ولا العبيد ولا الكهنة وأتباعهم الأغبياء المنافقون أي مكان لهم، اللهم إلا على صفحات التاريخ وخشبة المسرح». بهذه النبرة الواثقة والشجاعة كتب كوندوسيه كتابه الذي يدعو إلى تحرير الإنسانية من قيود الظلم والطغيان وكان شديد التفاؤل بالمستقبل والتقدم نحو الكمال.

 

عن الشرق الاوسط