fbpx
طواحين الهواء في عدن .. وصراع المصطلحات الجوفاء!!!

أهي مصادفة ان تحتفي عدن بهذه النوع من الطواحين الهوائية الجميلة أم ان الأمر فيه معنى ودلالة رمزية ؟ إذ حينما يتأمل المرء بأساليب وطرق وأدوات مواجهة الجنوبيون لمشكلاتهم السياسية الواقعية أو المتخيلة وآليات ادارة صراعاتهم المضنية بشأنها لا يحتاج الى ذكاء إضافي ليتبين وجه الشبه الكبير بين صراعات الناس هنا وطواحين الهواء القائمة في المملاح ، فمنذ خروج الإنجليز من عدن في  ١٩٦٧م  وربما من قبلها ، احتدم الصراع بين التوجهات والمكونات والقوى والنخب الجنوبية المتماثلة في المصالح والأهداف والمستويات والمرجعيات والإشكال والأزياء والقيم والعادات والتقاليد حول المفاهيم والمصطلحات والكلمات والتسميات والصفات، (اتحاد الجنوب العربي ، جمهورية اليمن الجنوبية ، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، جبهة تحرير الجنوب المحتل، الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل، قومية عربية ،أم اشتراكية صينية ماوية فلاحية، لا اشتراكية ماركسية لينينية على الطريقة الروسية السوفياتية العمالية، قومية وإسلامية أم اممية عالمية ؟تنظيم سياسي ام حزب سياسي ، يمين رجعي أم يسار تقدمي،  يسار انتهازي ام يسار صافي ؟ دكتاتورية البروليتاريا أم سلطة عمال وفلاحين، طبقات اجتماعية أم شرائح وفئات اجتماعية، قوى تقدمية أم تكوينات تقليدية ؟ كونبرادورية ام برجوازية صغيرة ؟ صراع طبقي أم تعاون مجتمعي، عنف ثوري أم عنف سياسي؟ ثورة أم دولة؟ مرحلة انتقالية أم دولة وطنية ديمقراطية، توجه اشتراكي أم توجه راسمالي؟ ملكية عامة أم ملكية خاصة؟ ..الخ من تلك الكلمات والمصطلحات الفضفاضة الكبيرة التي تم استحضارها من سياقات ثقافية وتاريخية مختلفة ومغايرة  كما يستحضر المشعوذون أرواح الجن والشياطين من عوالمهم المخفية .

وذلك في لحظة تاريخية عالمية شهدت بما بات يعرف بالحرب الباردة والصراع الايديولوجي بين الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية  والاشتراكية الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وهو الصراع الذي خيم بأفقه على معظم شعوب ودول العالم وكان له بالغ الأثر على المنطقة العربية وما شهدته من احداث وتغييرات خطيرة مازلنا ندفع اثمانها الباهظة حتى اليوم وربما الى امد بعيد، وقد شاع هذا النمط من صراع المصطلحات منذ اربعينيات القرن الماضي عند مختلف الشعوب العربية لاسيما تلك التي شهدت حركات التحرر العربية من هيمنة القوى الاستعمارية الاجنبية. هذا النمط من صراع الكلمات اكتسب تعينات ومسارات مختلفة في الاقطار العربية وأفضى الى نتائج متباينة في كل قطر من الاقطار   بسحب السياقات المتباينة  ، غير انه في عدن والجنوب تحديدا كان له بالغ ألأثر في تشكيل حياة الناس ليس الافراد فقط بل شعب الجنوب ودولته الوطنية برمتها.

اني إذ احاول استعادة ذلك التاريخ القريب ليس بغرض محاكمته أو الانتقاص منه وممن قدر لهم ان يعيشونه بكل صراعاته المريرة، فهو ماضي قد ولى ومضى وانقضى ويستحيل ارجاعه، ومهما يكون موقفنا من  الماضي فإنه تاريخنا ولا جدوى من  الثأر منه أو السخرية منه ابدا , كما أن حبنا له وإجلاله لا يغيران من حقيقته في شيء, وحينما يكون الماضي الذي نود معرفته, ماضياً سياسياً اجتماعيا قريباً وحاضراً ومؤثراً , مليئاً بالإحداث المأساوية فإن المهمة ستكون شاقة, غير أنه ليس هناك من خيار أخر لنا  طالما ونحن بشر يفترض أن نمتلك, العقل والحكمة, لا قطيع من الكائنات الهائمة  لا تدري لماذا تعيش ولماذا تموت والى أين تسير؟ , أو كيف تتصدى لمشكلاتها وتدير صراعاتها وتبحث في مآلاتها وممكنات تجاوزها , فمهما حاولنا الهروب فلابد مما ليس منه بد ولا يجدي التسويف والتبسيط واللف والدوران والمغالطات والترقيع والتخدير والتأجيل،  كما أن تجليات الواقع مكررة على الدوام , وليس في الإمكان المعرفة إلا ضد معرفة سابقة أُسيء تكوينها, ومن المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا واخفاقاتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره إذا لم نبادر نحن بعمله .

ولسنا بحاجة الى الاتيان بالمزيد من الشواهد في أن الكثير من صراعاتنا في الماضي كانت صراعات حول الكلمات والمصطلحات التي  طارت شعاعا مع اول هبة ريح بحرية وعند اول اختبار عملي ذلك لأنها (ارمولية) بمعنى نبته  بلا جذور،  جرى  استنباتها في بيئة غير بيئتها! وقد كانت صدمة الوحدة الكارثية واحتلال الجنوب كفيلة بإخراجهم من هذا السحر الخطير، اقصد سحر الايدلوجيا وصراعاتها المهلكة. إذ ما  ان وضعت حرب اجتياح وتدمير الجنوب اوزارها حتى استفاق الناس من غيبوبتهم الخطيرة ولكن بعد خراب مالطة، حيث اخذو يتأملون في قصة ماضيهم ومصيرهم الفاجع  ويتساءلون عن اسباب صراعاتهم الدامية وفحواها ليستخلصون النتيجة البالغة المرارة (اكلنا هواء) وتصارعنا بسبب الكلمات والمصطلحات وتأويلاته الزائفة، على مدى اكثر من ربع قرن والصراع المحتدم هنا في عدن عاصمة دولة الجنوب كان بين الاخوة ورفاق النضال وزملاء الدراسة والعمل والجيران والأهل والأصحاب ولم يكن ابدا صراع بين طبقات وقوى مصالح متمايزة ومتناحرة حقيقية موجودة في الواقع التقليدي المتواضع البسيط، بسبب سحر الكلمات وطابعها التحريضي والتعبوي السريع الاستقطاب كان الناس يجدون انفهم فجأة منقسمون الى فريقين متقابلين ثم متخاصمين وفي غمضة عين سرعان من يتم شحن هذا المجال الاجتماعي السياسي المختلق بكل اسباب الفرقة والعداوة والانقسام الى (نحن وهم) مع  وضد ،اخيار وأشرار، خونة وامنا، صح وغلط، شرعي وغير شرعي ، تيار رجعي وتيار تقدمي، تيار وتيار، بعد ذلك يكون الاشتعال والانفجار لشحنة العنف الايديولوجي تحصيل حاصل بين الاخوة الاعداء. تلك هي الحكاية التي لم تنتهي بنا إلا  بدخول النفق الكبير في مايو وما كان ٩0 بعدها من بقية القصة المعروفة. غير ان ما افزعني هو ما اراه يلوح بالأفق هذه الايام وبعد عشرين عام من الاحتلال والتضحيات الجسام من لعنة صراع طواحين الهواء ،اهي اللعنة الأيديولوجية ذاتها مازالت تلوح بالأفق الجنوبي بعد كل ما كان وما لم يكن من غزو وتكفير وتدمير واحتلال غاشم من قوى التقليد المهيمنة في الشمال ، وبعد عشرين عام من ثورة المقاومة الجنوبية السلمية والتضحيات الجسام ، مازال البعض يجادل ويختلق الصراع الهوائي حول الكلمات والتسميات والتعاريف، ماهي القضية الجنوبية؟ قضية ارض وهوية أم قضية دولة وشعب؟( تحرير واستقلال ، ام تقرير مصير ؟ استعادة دولة ام ، بناء دولة ؟ جنوب عربي ام جنوب يمني ، مؤتمر جامع أم جبهة وطنية ؟ قوى ثورة أم مجلس ثورة ؟ استعادة دولة أم استعادة نظام ؟! … الخ من تلك الأوهام التي لا وجود لها الا في رؤوس أصحابها ؟!

الا يكفي ان يأكل الناس الهواء مرتين ؟! ولم هذا الإصرار العجيب الغريب على تلقيم الناس جعجعة طواحين الهواء المهملة ؟! لقد فكرت مليا بهذه المنزلق وتوصلت الى قناعة بان نكتفي بالحديث عن استعادة (السيادة ، السيادة السيادة ) تلك الكلمة البسيطة المحايدة المتواضعة هي ما ينقصنا، وكل ناضلنا وجهدنا ينبغي ان يتوحد في سبيل هدف واحد ووحيد هو ان يستعيد الجنوبيين سيادتهم الكاملة على ارض دولتهم التي كانت وحدودهم وفي وطنهم، أن السياسة هي فعل جمع القوة لا خطاب تشتيت أمال وأحلام، علينا ان لا نجعل من الكلمات والمصطلحات موضوعات صراع واتجاهات تحديد مواقف أو مشاريع وتصانيف، وتعاريف، وان نتفق على قواسم مشتركة وان نصغي وتستوعب كل الحساسيات التي الموجودة ونتفهمها بدون شطط ولا مزايدات وشعارات فارغة والقيادة هي  قدرة وحنكة على تأليف المختلف وتقريب المبتعد وتأليب الجهد، كتب مانلا في الطريق الى الحرية قائلا:( كنت احرص في كل المناسبات العامة على ان اظهر بجانب خصومي إذ اجعلهم يقعدون بالمقاعد الاقرب الي، في حين اترك انصاري في المقاعد الخلفية) القيادة لا تقتصر على تجميع عدد من الاتباع والمناصرين خارج السفينة بل هي بالأساس تكمن في قدرة القائد على حمل جميع الركاب الراغبين بالإبحار في سفينته وإيصالهم الى بر الامان بسلام. ايعقل ان يتنافس القادة على تسجيل وجمع الركاب قبل ان تكون لديهم عربات قادرة على حملهم والسير بهم في خطوط سير صالحة؟ كمن يبيع الزيت والزيتون ولا يملكه اصلا! ليس هناك مشاريع ولا اتجاهات ثورية شديدة الاختلاف في الجنوب المحتل اليوم، فقط هناك وجهات نظر وسوء تفاهم حول المصطلحات والكلمات، بينما الجميع في وضع واحد هو انعدام السيادة المستقلة في ارضهم ووطنهم.والحمد لله ان عصر الحرب الباردة قد انتهى وسحر الايديولوجيا قد ولى  وألا لكنا خطر هذه الخلافات العابثة بشأن الكلمات والمصطلحات والجمل والعبارات فادح على مصير ثورة المقاومة الجنوبية السلمية المنتصرة بقوة ارادة الشعب وتضامنه وثباته.

هل آن الاوان لان يكف الجميع عن صراع طواحين الهواء؟ ، وعلى فكرة لا توجد طواحين هواء كما اعلم إلا في عدن  ولا سامح الإنجليز الذي إنشاؤها لغرض في نفس يعقوب ! ومتى يثبت الجنوبيون عكس قول الانجليزي الشهير( ان عدن أنجبت تجارا ناجحين وسياسيين فاشلين ). الشعب تعب في الميادين والساحات ايتها القيادات المشغولة بكتابة البيانات والدفاع عن المصطلحات. بينما هاهو صاحب صاعدة اخذ الأمر كله في صنعاء بدون صراع  حول الكلمات والى متى تظل صراعاتنا جعجعة بالا طحين، بينما نرى صراعات الآخرين  تنتج الطحين والخبز والعجين بدون جعجعة ولا هم يحرنون؟؟؟ ومن لم يتعلم من تجارب الحياة وخبراتها يستحيل ان يتعلم بأي وسيلة اخرى، والله من وراء القصد.