fbpx
الدلالات العظيمة لأيام فاصلة .. الذكرى الـ(47) لاستقلال الجنوب

ثمة لحظات أو أيام في التاريخ تكون فاصلة لا يمكن محوها من الذاكرة، ولا من الزمن مهما تعاقبت الأيام والسنون، ومن هذه التواريخ الثلاثون من نوفمبر عام 1967م الذي يحتفل به شعبنا العظيم في كل عام، ويحتفل هذه السنة بذكراه السابعة والأربعين.

انه يوم من أيام التاريخ، يفصل بين زمنين، زمن الاحتلال الذي دام أمده لعدن والجنوب طوال أكثر من قرن وربع القرن، وزمن الحرية والاستقلال.

وبهذه المناسبة العزيزة والغالية على شعبنا، أتوجه بخالص التهاني القلبية إلى شعبنا الأبي الذي يعود الفضل إليه في صنع هذا اليوم ليحتل مكانه اللائق في التاريخ كشعب حر أبي جدير بالحياة الحرة الكريمة، وأُحيي الجماهير المحتشدة في هذا اليوم في ساحة العروض في عدن وغيرها من المحافظات احتفالاً بهذه المناسبة الغالية، في الوقت نفسه أُحيي أرواح شهداء الحرية والاستقلال الذين افتدوا تراب الوطن الغالي بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية، داعياً إلى الله تعالى أن يتغمدهم برحمته ويسكنهم فسيح جنانه، والتحية والتهنئة موصولة إلى جرحى حرب التحرير الوطنية، وإلى كل الفدائيين والمناضلين الذين شاركوا في هذه الملحمة الوطنية الكبرى، والرحمة لمن قضى منهم نحبه، والصحة وطول العمر لمن بقي منهم على قيد الحياة، وأقول لهؤلاء وأُولئك إن تضحياتهم العظيمة لم تذهب هدراً.. وأن الأثمان الغالية التي دفعوها هي التي جسدت هذا المعنى العميق للحرية والاستقلال المستمر حتى اليوم، والذي سيستمر إلى الأبد عميقاً في حياة شعبنا وفكره وكفاحه من أجل الحياة الحرة الكريمة.

اليوم عندما أستعيد مع أبناء شعبنا خاصة أُولئك الذين شهدوا بزوغ فجر يوم الاستقلال في 30 نوفمبر عام 1967م يتزاحم في ذاكرتي سيل من الصور والمشاهد والذكريات والأحداث عن هذا اليوم المجيد الذي كان كل شيء فيه رائعاً وجميلاً، كيف لا وقد انتزع شعبنا حريته بعد 129 عاماً من الاحتلال البريطاني لعدن والجنوب، ومن تلك المشاهد التي لا تزال حية في الذاكرة ذلك المشهد المهيب والكل يلتقون لأول مرة وجهاً لوجه بعد انسحاب القوات البريطانية وتحقيق النصر على قوات الاحتلال، العائدون من الخارج برئاسة المناضل قحطان محمد الشعبي، والفدائيون الذين خرجوا من مخابئهم السرية وهم يظهرون لأول مرة أمام العالم بعد عمل سري استمر أكثر من أربع سنوات، ولا يعرفون إلا بأسمائهم الحركية، والمقاتلون القادمون من جبهات القتال في الريف، والعسكريون الذين ناصروا الثورة وساندوها بالمال والسلاح والمعلومات، وكل هؤلاء وسواهم الشركاء في صنع النصر العظيم يظهرون لأول مرة أمام الكاميرات وهم يحتفلون مع كل المناضلين والأحرار والجماهير بهذا اليوم الأغر وهم يهتفون “برع برع يا استعمار .. برع من أرض الأحرار” ويرددون بملء حناجرهم غيرها من الأناشيد والأغاني الوطنية والأهازيج تعبيراً عن فرحتهم بهذا النصر الذي تحول إلى عرس وطني كبير لم يشهد التاريخ له مثيلاً في حياة الجنوب، والذي شارك فيه مختلف مكونات المجتمع المدني من نقابات وصحافة ومنظمات أهلية ورجال الدين وبقية جماهير الشعب.

كانت أيام فرح وأعراس حقيقية.. أول عرس نعيشه بعد (129) عاماً من الاحتلال، الفرحة تعم عدن والمحميات بالانتصار التاريخي على قوات الاحتلال وبزوغ فجر الاستقلال.. هذا اليوم الذي طال انتظاره أكثر من قرن وربع القرن جاء معمداً بالدم، وبالتضحيات الغالية، والانتفاضات والثورات، والتمردات، وأرواح الشهداء.. بالعرق والدم والدموع، ولم يكن هبة أو منحة من أحد، لذلك كان الفرح على قدر الكفاح والصبر المرير.

كنت أشاهد مئات السيارات تتحرك وتطوف أحياء وشوارع مدينة عدن تحمل آلاف الشبان الثائرين المفعمين بنشوة النصر.. وكان هتافهم للثورة.. وللحرية.. كانوا يلوحون بأعلامها ذات الألوان الثلاثة: الأحمر، الأبيض، الأسود، الذي تتوسطه الأحرف (N.L.F) في إشارة إلى النصر الذي حققته الجبهة القومية على قوات الاحتلال البريطاني.

باختصار كانت عدن والجنوب كله يتنفس في ذلك اليوم هواء الحرية، وكانت كل ذرة من ترابه، وكل نسمة من هوائه، وكل خلجة من نفوس أبنائه تستنشق هذا العبير بسعادة ليس لها حدود، وكان ذلك بدون أدنى شك تتويجاً لنضال شعبنا الأبي الذي استطاع بإرادة الحياة فيه أن يواجه أعتى الإمبراطوريات الاستعمارية في التاريخ الحديث بجيوشها الجرارة وأسلحتها الفتاكة وهو يكاد يكون أعزل من السلاح، ولكنه مع ذلك استطاع أن يلحق الهزيمة بها، فكان غروب شمس الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها، من عدن بالذات، وكان الزمن نفسه زمن أفول الاستعمار وبزوغ زمن حرية الشعوب في كل مكان في العالم.

ومنذ البداية وضعت الجبهة القومية رائدة الثورة والكفاح الوطني التحرري مع كافة القوى الوطنية والسياسية وجبهة التحرير والتنظيم الشعبي أهدافاً كبرى سعت إلى تحقيقها بإعلانها تحرير الجنوب من الاحتلال البريطاني، وتوحيده في دولة وطنية حديثة مدنية عوضاً عن التجزئة التي كانت سائدة، حيث كان الجنوب مقسماً الى نحو 23 سلطنة ومشيخة وإمارة، وهو ما تحقق في 30 نوفمبر عام 1967م بقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية برئاسة المناضل قحطان محمد الشعبي أول رئيس للجمهورية والتي حظيت باعتراف العالم وفي مقدمتها مصر عبد الناصر التي قدمت الدعم والمساندة للثورتين في الشمال والجنوب، وقد نجحت خلال السنوات اللاحقة من عمر الاستقلال في إقامة دولة مدنية حديثة مهابة ليس فيها مكان للطائفية والفساد كما كان من أهدافها الكبرى النضال من أجل تحقيق الوحدة اليمنية والوحدة العربية ومساندة كفاح الشعوب وحركات التحرر الوطنية من أجل الحرية ونيل الاستقلال، وفي المقدمة قضية الشعب العربي الفلسطيني العادلة وحقه المشروع في أرضه وقيام دولته الوطنية المستقلة.

ونحن نحتفل بذكرى الاستقلال في 30 نوفمبر فإنما نحتفل بالدلالات العظيمة لهذا اليوم المجيد الذي سيظل كتاباً مفتوحاً لذاكرة الأجيال المتعاقبة عبر الزمن وبأثره العظيم في ضمائر الأجيال ليكون إلهامها القوي لمسيرة طويلة ظافرة تتواصل على يد أبناء شعبنا بحسهم الوطني والقومي.

وفي ختام هذه العجالة يجب التذكير بأن اليمن الديمقراطية وخلال زمن قياسي وفي فترة تاريخية قصيرة من عمر الشعوب استطاعت خوض تجربة فريدة في الحكم، وأقامت دولة النظام والقانون وحكم المؤسسات قياساً بالأوضاع المتخلفة التي كانت سائدة آنذاك، وكان الاستثمار في الإنسان وبناء الدولة وتنمية المجتمع أهم المنجزات لدولة الاستقلال بالرغم من التعقيدات والصعوبات وقلة الإمكانيات وأهمها التطبيب والتعليم المجانيين والأمن الغذائي وتحقيق الأمن والاستقرار منذ قيام الدولة في الجنوب حتى عشية الوحدة عام 1990م، وهذا لا يعني أن التجربة لم يصاحبها بعض الأخطاء والسلبيات، شأنها شأن كل تجربة إنسانية.

وكل عام وشعبنا بألف خير.