fbpx
ملاحظات اولية من اجل جامعة حرة مستقلة

 

“نحن نقوم بتشكيل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكلنا ” تشرشل

إذا ما أردنا تجاوز وضعنا الراهن والأمل بان تكون لنا جامعات بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلا بد لنا منذ البداية أن نحدد الأولويات والقواعد الأساسية التي يستحيل الحصول على الجامعة بدونها، والتي غيابها يجعلنا ندور في حلقة مفرغة ونراوح في المكان نفسه دون أن نتقدم خطوة واحد إلى الأمام.وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في العصر الوسيط تتمتع بقدر كبير من الحرية والاستقلالية القانونية والمالية والإدارية، وكانت الحرية الأكاديمية هي السمة المميزة للجامعات وهذا ما جعلها تمتع (بحرمة) شبه مقدسة من الانتهاك ومن دخل الحرم الجامعي كان آمنا، وتعني هذه الحرية الأكاديمية، حرية التفكير والتعبير والاختلاف والتعليم وان هيئة التدريس في الجامعة تتمتع بحق تدريس ما تعتبره صحيحاً وانه ليس هناك قيود على ما يقوله الأستاذ أو يكتبه أو ينشره. ويرتكز هذا الحق على قدسية الحقيقة العلمية من ناحية ومسؤولية المدرس في معرفة هذه الحقيقة وحقه في نقدها أو مناقشتها، دون إي قيود.ونعتبر حرية الجامعة واستغلالها من التقاليد التي ورثتها الجامعات الحديث والمعاصرة عن جامعات العصر الوسيط.

وإذ ما حاولنا أن نحدد أهم التحديات التي تواجه جامعاتنا المحلية   ممثلة بهيئتها التدريسية والتدريسية المساعدة وطلبتها بنقاباتها المهنية وهيئاتها الإدارية فيمكننا الإشارة إلى أن التحدي الأبرز الذي يواجهنا اليوم يكمن في النضال المستمر من اجل الحصول على جامعة حرة ومستقلة، أي مؤسسة أكاديمية بالمعنى الحقيقي للكلمة، مؤسسة تتمتع بشخصية اعتبارية وحق الولاية القانونية، فقد كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة واحدة أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء وتطور الجامعات في القرون الوسطى، إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها فرادى، ويرى توبي أ. هف في كتابه (فجر العلم الحديث) انه من المصادفات التاريخية إن الكلمة اللاتينية Universities والتي تعني Corporation أي الجسم كله قد انحصر معناها ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities (أي الجامعات).5ويؤكد (جينز بوست) (أن العلماء في جامعة باريس كانوا مع حلول سنة 1215م على ابعد تقدير قد تبلور وجودهم على شكل هيئة تدعى (هيئة الأساتذة والعلماء بوسعها أن تضع القوانين وان تنفذ الالتزام بها).هذه الهيئة المتحدة هي ما أطلق عليه كلمة جامعة.وقد تم تطوير مفهوم الجامعة ليعبر عن مجموع أعضاء هيئة التدريس والطلبة المتحدون في هيئة أو كيان أو مؤسسة أو إطار قانوني واحد يمتلك شخصية اعتبارية حرة ومستقلة ويهدف إلى توفير الأمن والاستقرار والهدوء لمنتسبيه ومنع الابتزاز والاستغلال عنهم، من اجل أن يتمكنوا من متابعة دراستهم العليا بكل حرية وشفافية وموضوعية وبدون عراقيل أو معوقات أو إزعاج من أحد من أولئك المتطفلين من السياسيين والعسكريين أو رجال الدين وغيرهم.وحرية الجامعة واستقلاليتها هي سلسلة متصلة وكلية بين ثلاثة انساق أساسية هي:

 

اولا _الاستقلال المالي:

 

شرط ضروري للاستقلال الإداري والأكاديمي معاً بل هو أقوى الضمانات لحرية الجامعة واستقلالها، ولا يمكن أن تستمر الجامعة في أداء رسالتها دون أن يكون بحوزتها موارد مالية كافية ومستمرة وثابتة نسبياً، إذ أن المال هو عصب كل مشروع وهو قوة كل مؤسسة في تسيير عملياتها ونشاطاتها بصورة منتظمة وبيروقراطية.وسلسة وكفؤه وفعاله.

 

والاستقلال المالي للجامعة، لا يعني بأي حال من الأحوال تحويل الجامعة إلى شركة استثمارية تعتمد على مصادرها المالية الخاصة، كما يحاول بعض رؤساء الجامعات الساسة ترويجه لتبرير فتح نظام النفقة الخاصة والتعليم الموازي السيئ الصيت الذي أصبح اليوم يهيمن على نظام التعليم الرسمي في معظم كليات الجامعات الحكومية ويخفي صور شتى من الفساد المالي و الإداري والتعليمي والانحطاط الأخلاقي ، بل يعني أن تتحمل الدولة مسئوليتها الوطنية وتمنح الجامعة ما تحتاجه من المصادر المالية في ميزانية محددة ومستقلة، يترك أمر تصريفها وتوظيفها للجامعة وهيئاتها المستقلة وفقاً للقنوات الشرعية، مع منح الجامعة الحرية في وضع القواعد المالية الخاصة بها وحرية التصرف في الميزانية المعتمدة لها وحرية التحويل من بند إلى أخر من بنود الميزانية كما يجب أن تكون الرقابة المالية على الميزانية من داخل الجامعة ذاتها دون تدخل من الخارج .  وتشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من الجامعات الحكومية في الدول الأوروبية تعتمد في تمويلها على حكوماتها الوطنية، دون أن يؤثر ذلك على حريتها واستقلاليتها الإدارية و الأكاديمية .إذ أشار د. ل في كتابه (ضمان الجودة في التعليم العالي) 2005 إلى انه “وباستثناء جامعة بوكنهام Buckingham تحصل كل الجامعات البريطانية على نسبة كبيرة لتمويلها من الحكومة من خلال لجنة المنح الجامعية UGC وهي هيئة شبه مستقلة ذاتياً؛ أعضاؤها أكاديميون، ولم يكن للحكومة دخل في تعيين رؤساء الجامعات”6 واحترام الاستقلال الذاتي للجامعات معناه، تخصيص المعونات في إطار الخطوط أو الأطر الحكومية العريضة التي لا تمس حرية واستقلالية المؤسسة الأكاديمية بأي شكل من الأشكال.

 

وهذا ما أكده د/عبد الفتاح أحمد حجاج بقوله”أن مجمل إيرادات الجامعات البريطانية- تقريبا- تأتي من الحكومة المركزية عن طريق( لجنة المنح الجامعيةUGC)وبذلك تتمكن الجامعات من ضمان الحصول على موارد مالية ضخمة شبة دائمة من الخزينة العامة للدولة وفي ذات الوقت تضمن استقلاليتها المؤسسية وحرياتها المهنية الأكاديمية”.7هذا في حين أن القابضين على مقاليد الشأن السياسي في بلادنا لا يزالون ينظرون إلى الجامعة بعقلية البقال عقلية الربح والخسارة التي لا ترىفي كادر الجامعة غير حفنة من النقود الإضافية على الميزانية،ففي مشروع((الضوابط))السيئ الصيت الذي جرى فيه معاملة الجامعات مثلها مثل أي مصلحه أو مؤسسة حكومية أخرى وتم تطبيق قانون وزارة التأمينات والمعاشات على أساتذة الجامعة بعدهم موظفين حكوميين ليس إلا،يتضح مدى الهيمنة السياسية على المؤسسة الجامعية وحجم خضوعها وارتهانها لأهوى السلطان ومصالحه الحزبية و الأيديولوجية الضيقة،وقد بلغت الاستهانة بالجامعة و أساتذتها عند ساسة بلادنا حد التهديد للأساتذة المطالبين ببعض الحقوق المهدورة بالاستغناء عن خدماتهم واستبدالهم بمن يقوم بوظائفهم بأساتذة من الخارج.

 

ثانيا_  الاستقلال الإداري:

 

يرتبط الاستقلال الإداري للجامعة شرطياً باستقلالها المالي وهو شرط ضروري للاستقلال الأكاديمي، ونعني بالاستقلال الإداري حرية الجامعة في إدارة نفسها بنفسها، وحريتها في وضع القوانين واللوائح التي تنظم عملها وحرية وضع هياكلها التنظيمية والمؤسسية واتخاذ القرارات الداخلية وتصرف شؤونها دون تدخل أو تسلط أو وصاية من أي جهة أخرى، سياسية أو بيروقراطية رسمية أو حزبية أو شخصية خارجية والاستقلال الإداري للجامعة يعتبر من أهم الضمانات التي توفر المناخ السليم لاستقرار العمل الجامعي ونموه وتقدمه ولا يكون الاستقلال الإداري للجامعة إلا بامتلاكها حرية تشكيل أجهزتها الإدارية العليا وقياداتها الأكاديمية من رئيس الجامعة إلى رئيس القسم العلمي- بطريقة ديمقراطية تقوم على أساس الانتخابات الجد والتمثيل الصادق للتنظيم الجامعي والتجسيد الفعال للقيم العلمية والأكاديمية مع ضرورة اشتراك الطلبة في إدارتها وتمثيلهم في هيئاتها المنتخبة، والاستقلال المالي والإداري للجامعة لا يعني الحرية المطلقة، بل يتضمن منح المؤسسة فضاء وأفق ومجال نسبي وكافي لتتمكن من الحركة والاستدارة بمرونة وسلاسة ودينامية، وتستطيع النمو والتطور والتقدم بقواها الذاتية، وهي بذلك تظل خاضعة في كل نشاطه للأهداف الوطنية والمصالح العليا للدولة والمجتمع في ظل الدستور والقوانين النافذة والجامعات الحديثة منذ نشأتها كانت كيانات قانونية مستقلة، تضم )هيئات من الطلبة والمدرسين الذين أعطوا صلاحية تصريف أمورهم كيفما شاءوا) ويذهب توني هف ” إلى أن الجامعات جاءت إلى الوجود بوصفها نقابات علمية » دون الموافقة الصريحة من الملك أو البابا والأمير أو الأسقف بل كانت منتجات عفوية أنتجتها غريزة الارتباط التي اكتسحت المدن الأوروبية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر وكأنها موجة عظيمة«

 

إن ابرز المهام التي يجب لكل عضو من أعضاء الهيئة التدريسية والتدريسية المساعدة والطالبات والطلبة التركز عليها اليوم هي العمل الدءوب والصبور والمتواصل في سبيل تحرير الجامعة من اسر الاعتقال السياسي والحزبي، وفك الارتباط المهيمن بين الجامعة والسلطة. وهذا ما أشارت إليه بكل وضوح (الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي) إذ أكدت » إن هناك غموض في تحديد المسؤولية النهائية في الجامعات اليمنية، حيث يخضع تعيين قيادة الجامعات للقرار السياسي … إذ يتم تعيين رؤساء الجامعات ونوابهم من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء … وهذا أمر غير مرض، لاسيما في ظل الاتجاه العالمي الذي يقضي أن يكون للجامعات مجالس أمناء يتكون من أعضاء أكاديميين لا يمثلون الأغلبية بالضرورة، إضافة لشخصيات اجتماعية من رجال الأعمال، ويمثل هذا المجلس السلطة العليا للجامعات، وفقاً للشفافية وتكافؤ الفرص والتنافس والانتخاب وإذا أعطيت الجامعات الاستقلالية المالية والإدارية فسيكون مقابل ذلك تعرض قيادات الجامعات للمساءلة والمحاسبة … والتحول إلى نظام جامعي كامل الاستقلالية … سوف يضمن تطوير نظام التعليم العالي في اليمن بمستوى عال من الجوده وسيجعله نظاماً فعالاً يخدم البلاد على وجه امثل«

 

إن ما تشهده جامعاتنا اليوم من اضطرابات وأحداث مؤسفة، فضائح الفساد المالي والإداري وانتهاكات سافرة للحرم الجامعي وقمع الطلبة والأساتذة بالضرب والقنابل والاعتقال، وهيمنة الاستخبارات والأمن والعسكر على كل صغيرة وكبيرة في المؤسسات الجامعية ليس سوء الزبد الذي يظهر على سطح مياه السيل الذي يخفي في أعماقه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من فضائح الفساد وجثثه المتعفنة وديناصوراته المتحجرة التي أدمنت العيش في الوحل والظلام بعيداً عن نور الشمس وشفافية الحقيقة، فإذا كشف الغطاء عن وضع الجامعات اليمنية الراهن فمن المؤكد أن الكثيرين من ذوي النفوس الطيبة قد لا يتحملون وقع الصدمة،مما آل إليه حال مؤسستهم الحديثة الوحيدة التي وضعوا فيها كل آمالهم والتي هي كل ما يمكنهم أن يفتخروا به بعد حساب نتائج نصف قرن من التضحيات و الألم والكد والنكد.فهل أدركت النقابات حقيقة التحدي الذي يستدعي القيام بالاستجابة الفعالة لكبح جماح عملية التخريب والانحلال التي تسير فيها الجامعة اليمنية مادام الحاكم لا يرى في الجامعة غير جهاز من أجهزته السياسية الأيديولوجية والأمنية وفي هيئاتها التدريسية والتدريسية المساعدة غير مجموعة موظفين يخدمون مصالحها السياسية وأهوائها الحزبية وينظر إلى المال الذي يصرف على الجامعة بعده هبه أو مكرمة أو أجور مقابل وظيفة حكومية والأمر كذلك يستحيل الحديث عن الاستقلال الإداري فمن يدفع المال للموظفين هو الذي يديرهم ويسيطر عليهم،ومن ثم فأن تحديد الميزانية وطرق صرفها،وأبواب صرفها،لا يخضع لأحد غير السلطة الحاكمة فهي تعطي لمن تشاء وتمنع عمن تشاء وتكرم من تشاء وتحرم من تشاء.

 

 

ثالثا_ الاستقلال الأكاديمي:

 

يعود مصطلح الأكاديمية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427- 347 ق.م) إذ كان أول من أطلق اسم (اكاديموس) بمعنى المكان الذي كان يلقي فيه محاضراته الفلسفية ويعلم فيه تلاميذه العلوم العقلية المجردة كالرياضيات والفلك والهندسة والتربية والسياسة … الخ، تمييزا له عن أماكن وأنماط التعليم السفسطائي الابتدائي، والأكاديمية تعني بيت التعليم العقلي والحر والتأمل الفلسفي المجرد والمعرفة الرفيعة التي ليس لها من غاية أخرى غير البحث عن الحقيقة.وقد ارتبط نمو العلم وازدهاره بالحرية كمعطى إنساني وحق فطري للكائن الاجتماعي، إذ أن الحرية الشيء الوحيد الذي يستحيل إنكاره، وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في القرون الوسطى تمتع بقدر كبير من الحرية والاستغلال الأكاديمي، والحرية هي من التقاليد الراسخة التي ورثتها الجامعات الحديثة المعاصرة ونعني بالاستقلال الأكاديمي حرية الجامعات في اختيار نظامها التعليمي وبرامجها ومناهجها وطرائق التدريس واختيار هيئة التدريس فيها، وعدم وضع قيود على ما تدرسه الجامعة وما يقوله أو ينشره أو يعبر عنه أساتذتها من الأفكار والآراء العلمية وغير العلمية.

 

ويعني الاستقلالية الأكاديمية للجامعة حيادها الفكري وتجردها وعدم انحيازها.والحرية الأكاديمية هي حصيلة وثمرت الاستقلال المالي والإداري للمؤسسة الجامعية.

 

وتجدر الإشارة إلى اننا لا نزال نستخدم كلمة (أكاديمي) و(الأكاديمية) بدون أن نمتلك فهماً واضحاً ودقيقاً لمعناها، بل جرت العادة على عدم التفريق بين الأكاديمي والجامعي، أو بين النقابة والمهنة أو بين التعليم العام والتعليم الأكاديمي .   في حين أن المفهوم قد تطور وتحور منذ أفلاطون ليكتسب اليوم معنى واضح ومحدد. هو معنى التمييز المهني للمشتغلين في حقل المعرفة والعلم والتفكير المنهجي النظامي ، فالأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة وإنتاجها بإتباع مناهج وأدوات علمية محددة، بهدف الكشف عن الحقائق وبحث الأشياء والمشكلات بموضوعية وتجرد وحيادية تامة.

 

والأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية،دور الأستاذ الجامعي دور الباحث العلمي، دور المثقف المتخصص، دور المشرف العلمي(أو حارس البوابة)بما تشتمل عليه تلك الأدوار من قيم مهنية أكاديمية وأخلاقية منها:الرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد …الخ.

 

كانت جامعة باريس في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على سبيل المثال،هي التي تضع قواعد وتعليمات تنظم قبول الطلبة وطردهم وقواعد وتعليمات تحدد سلوك أعضاء هيئة التدريس؛حقوقهم وواجباتهم وتحدد المواد التدريسية وتسلسلها، وبكلمة كانت الجامعة مؤسسة للتعليم العالي تحكم نفسها بنفسها ولا تخضع لأي ضغوط أو قوى من خارجها.

 

العلم والجامعة وحرية التفكير والبحث .

 

إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة.وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها.وكما يقول توبي أ. هف » بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها«حري ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”10، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله”أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع “11.

 

وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها.لكن كيف يمكن للجامعة أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة؟!

 

وختاماً علينا أن نتذكر أن الفساد هو انتهاك القواعد والقوانين المعتمدة في المؤسسة من اجل تحقيق مكاسب شخصية،وقد لاحظ أفلاطون أن الحس القوي بالواجب يساعد على منع الفساد وهذا يجعل سلوك الأكاديميين بخاصة مهما غاية الأهمية لترسيخ معايير مؤسسية ثابتة نسبياً وهذا ما جاء في كتاب هوى رنان تسوكي الصين عام122ق.م بالقول:أذا كان خط القياس صحيحا فان الخشب سيكون مستقيما لا لان المرء بذل جهدا خاصا،بل لان أداة القياس التي التزمنا بها جعلته كذلك،وبالمثل إذا كان الحاكم مخلصا ومستقيما فان الموظفين الأمناء هم الذين سيعملون في حكومته بينما يختفي الأنذال والأشرار والفاسدين ،وإذا لم يكن الحاكم مستقيما فان الأشرار يجدون سبيلهم ممهدا أما المخلصون الأمناء فسوف ينسحبون إلى حيث يعتزلون متوحدين.

 

على هذا النحو تعلمنا الحكمة القديمة بان السلوك الفاسد في المستويات العليا يحدث أثارا تتجاوز النتائج المباشرة لهذا السلوك.كما أن السمات المميزة للحرية لها جوانب متباينة تتعلق بمجموعة مختلفة من الأنشطة والمؤسسات والدلالات المتنوعة.  بيد أن هذا التنوع هو الذي يمنح التنمية خصبها  كما قال وليام كوبر:الحرية تزهر بألف وجه من الجمال والفتانلا يعرفها العبيد مهما كانوا بحياتهم قانعين”.